دلالات الانتفاضة تباغت السيسي: تحولات بالدوافع والمشاركين والتعامل الأمني
ارتفعت حدة التعامل الأمني مع الانتفاضة العفوية الغاضبة التي اندلعت ضد نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مساء الجمعة الماضي، حيث انتشرت المدرعات ومصفحات الأمن المركزي والآلاف من عناصر الشرطة بالزي المدني، على مدار الساعة، في جميع الميادين التي شهدت تلك التظاهرات، سواء في محيط التحرير بوسط القاهرة، وميدان الأربعين بالسويس، وميدان الشون بالمحلة، وميدان الساعة بدمياط، وميدان المنشية بالإسكندرية. وفسرت مصادر أمنية واسعة الاطلاع ذلك بأن السيسي أصدر تعليماته بنفسه من نيويورك لوزير الداخلية اللواء محمود توفيق بضرورة تغيير استراتيجية مواجهة دعوات التظاهر، التي وضعتها دائرته في وقت سابق، والتواجد بكثافة في الشارع لتخويف المواطنين ومنعهم من النزول.
لكن هذه الحدة لم تمنع المتظاهرين في مدينة السويس تحديداً من الاستمرار في مفاجأة النظام، إذ استمر الكر والفر بينهم وبين عناصر الأمن، حتى فجر أمس الأحد. وانتشرت مقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي أوضحت 3 سمات أساسية للتعامل الأمني مع الأوضاع المشتعلة هناك. السمة الأولى هي عمل الشرطة على تلافي الاحتكاك المباشر بالمتظاهرين، وعدم استخدام أسلحة قد تؤدي إلى إيقاع قتلى أو حتى مصابين بعدد كبير. وظهر هذا في محافظة القوات على مسافة كبيرة بينها وبين المتظاهرين، في مشهد أقل عنفاً وقمعاً بكثير مما كانت تمارسه الشرطة في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك أعوام 2005 و2008 و2010 في التظاهرات الشعبية التي اعتبرت مقدمة لأحداث ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وهي بالتأكيد أيضاً أقل قمعاً من النهج الانتقامي الذي كانت تتعامل به السلطة مع متظاهري جماعة "الإخوان المسلمين" ومعارضي نظام السيسي في الفترة بين 2013 و2015، عندما كان استخدام الرصاص الحي اعتيادياً في وسط العاصمة وفي ضوء النهار.
السمة الثانية هي المحاولة العنيفة لعدم استمرار التظاهرات العفوية لما بعد منتصف الليل، ومنع تحولها إلى اعتصام كما كان الحال خلال الأيام الأولى لثورة يناير، أو إبان تظاهرات يونيو/حزيران 2013 التي انتهت بانقلاب 3 يوليو/تموز، حيث بدأ الأمن في استخدام القنابل المسيلة للدموع مع الاقتراب من منتصف الليل، ثم انتقل إلى مرحلة المطاردة في الشوارع والحارات لتفرقة المتظاهرين. أما السمة الثالثة فهي استهداف المواطنين الذين يصورون مقاطع الفيديو للأحداث من النوافذ والشرفات بإطلاق رصاصات مطاطية أو خرطوش. وأوضحت المصادر الأمنية أن "هذا الاستهداف بات ممنهجاً نظراً لخطورة نشر أي مقاطع على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن ثم تلقفها من قبل وسائل الإعلام الغربية والعربية التي لا تستطيع تغطية الأحداث من الشارع، نتيجة عدم الأمان الميداني والتضييق الحكومي على عمل المراسلين الصحافيين".
وإلى جانب استمرار الحراك، وخروج تظاهرات صغيرة في بورسعيد ونجع حمادي بقنا ومدن أخرى، تبدو المفاجأة الكبرى للنظام في طبيعة وخلفيات المتظاهرين، بعد دراسة أعمار ووظائف وانتماءات المعتقلين من القاهرة والمحافظات، سواء من تم الإفراج عنهم تباعاً خلال الساعات الماضية دون تحريك قضايا، أو من لا يزالون رهن التحري والتحقيق في معسكرات الأمن المركزي ولم يحالوا حتى الآن إلى النيابات المختلفة، التي ما زالت مستنفرة في انتظار العمل. وقالت المصادر الأمنية إن هناك "ارتفاعاً ملحوظاً في متوسط أعمار المعتقلين من المتظاهرين". فعلى خلاف ثورة يناير، التي عرفت بشبابها وتراوح متوسط عمر المشاركين فيها بين 20 و35 سنة، إلى حد إطلاق لقب "ثورة الشباب" عليها، فإن العشرات من معتقلي انتفاضة 20 سبتمبر/أيلول الحالي تزيد أعمارهم على 30 عاماً، مع مشاركة مكثفة للرجال فوق 40 سنة، ما يرجح أن الخروج العفوي يعود لأسباب اقتصادية في المقام الأول، ومعاناة مع الأوضاع المعيشية التي تضررت كثيراً بعد قرارات السيسي بتعويم الجنيه وتوسع الاقتراض وخفض الدعم وزيادة أسعار الطاقة والسلع الأساسية، وذلك رغم أن الكمائن التي ما زال الأمن يقيمها يومياً في محيط الميادين تستهدف بالأساس الشباب الأصغر سناً. وأضافت المصادر أن السواد الأعظم من المعتقلين غير منتمين لأي تيار سياسي، وهو ما يؤكد عفوية التحرك الشعبي وضخامة الاستجابة لمقاطع الفيديو التي ينشرها المقاول والممثل محمد علي منذ مطلع الشهر الحالي، لا سيما أن هناك معلومات مرصودة من الجهات الأمنية تؤكد أن "بعض القوى السياسية المعارضة غير الإسلامية طلبت من أعضائها عدم المشاركة في هذا الحراك، خوفاً من العصف سياسياً بها كما كان يحدث في السابق، أو أن يتم تحميلها مسؤولية الحشد والتحريض".
وتتكامل هذه المعلومات مع واقع امتناع جميع الأحزاب، وكذلك التيارات الناصرية، والنقابات، عن إصدار أي بيانات بشأن الانتفاضة الحالية. وشذ فقط عن القاعدة حركة الاشتراكيين الثوريين وحزب العيش والحرية اليساري تحت التأسيس، فضلاً عن امتناع الشخصيات السياسية التي حاولت لعب أدوار في السنوات السابقة من عهد السيسي، كرئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق والمرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي عن إصدار بيانات مؤيدة للحراك. وهو ما فسره مصدر سياسي ناصري بقوله "الأمور غير واضحة حتى الآن بالنسبة لوجود شخصية، أو دائرة نفوذ، أو جهاز بعينه، تقف خلف عاصفة محمد علي. وهناك أيضاً رغبة في ترك مجال أوسع للشخصيات الجديدة ومراقبة التفاعلات التي يمكن أن تنشأ نتيجة الانتفاضة بين الأجهزة المختلفة".
ومع ابتعاد الحركة الحقوقية، ممثلة في منظمات المساعدة القانونية وحقوق الإنسان، عن اقتحام المشهد من المنظور السياسي أيضاً، لنفس الأسباب التي أوضحها المصدر السابق، فإن بعض المنظمات والمحامين اتجهوا للعب دور أكبر تأثيراً في اللحظة الراهنة من خلال متابعة أحوال المعتقلين ونشر أسمائهم، وتقديم يد المساعدة لهم ولذويهم. وتحظى هذه التحركات بتقدير بالغ على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي اكتسبت زخماً استثنائياً بدخول أوساط جديدة غير مسيّسة معترك التظاهرات والاعتقالات من منطلق تفاعلها مع دعوة محمد علي.
ومع استمرار صمت الصحف الموالية للنظام والعاملة بمصر عن تناول تطورات الأوضاع في الشارع، والامتناع عن تغطية الأحداث في المحافظات، أصدرت المخابرات العامة تعليمات لجميع مقدمي برامج "التوك شو" بالتركيز على ما وصفوه بعدم استجابة المواطنين لدعوات التظاهر وإفشالها. كما تم اختلاق العديد من الصور التي تزعم اعتذار وسائل إعلام عربية عن نشر مقاطع فيديو وصور لتظاهرات قديمة. وتم نشر هذه الصور على نطاق واسع من قبل اللجان الإلكترونية التابعة للنظام. وتراوحت تعليقات وسائل الإعلام على الأحداث بين الإنكار الكامل لخروج المتظاهرين، وبين التجاهل التام، وبين الاعتراف بخروج عدد محدود من المتظاهرين. وهذا الاتجاه الأخير الذي نحت صوبه الهيئة العامة للاستعلامات التابعة لرئاسة الجمهورية، ويرأسها نقيب الصحافيين ضياء رشوان، والتي أصدرت، بعد منتصف ليل أول من أمس، بياناً دعت فيه وسائل الإعلام الدولية، خصوصاً مراسليها المعتمدين في القاهرة، إلى الالتزام بما سمته "القواعد المهنية المتعارف عليها دولياً عند تغطيتهم لشؤون مصر وأخبارها"، مطالبة بـ"وضع أية أمور في سياقها وحجمها بالنظر إلى وضع مصر كدولة كبيرة، بها أكثر من 100 مليون مواطن، وكذلك في السياق الإقليمي، وأيضاً في السياق العالمي الذي تشهد فيه كل عواصم العالم أحداثاً يومية من دون أن يدعو ذلك إلى القفز إلى استنتاجات ومبالغات هي أبعد ما تكون عن الحقيقة"، في اعتراف ضمني بالاحتجاجات وبزعم أن الاحتجاج "ليس استثنائياً أو خطيراً".