تفتح الضربات الأميركية الجديدة في العراق، على معسكرات ومواقع متقدمة للفصائل المسلحة، الباب مجدداً أمام تصعيد أمني آخر قد لا يكون محدوداً هذه المرة ويفتقد لصفة السيطرة عليه، خصوصاً مع ضعف ومحدودية صلاحيات حكومة تصريف الأعمال الحالية، وتعثر تشكيل حكومة جديدة، وتغول نفوذ المليشيات في الدولة العراقية، وغياب الضابط والمنسق الأول لعملها، إذ يغلب على العلاقة في ما بينها طابع التنافس على النفوذ واتساع الخلافات منذ قتل القوات الأميركية لزعيم "فيلق القدس" قاسم سليماني، مطلع العام الحالي.
مسؤول عراقي رفيع المستوى في بغداد كشف، أمس الجمعة، أن بلاده تلقت إخطاراً من القيادة الأميركية الوسطى في المنطقة قبل نحو ساعتين من الغارات التي نفذتها مقاتلات أميركية على خمسة مواقع متفرقة لفصائل عراقية مسلحة مرتبطة بإيران، فجر الجمعة. وأكد، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن التبليغ الذي رفضته حكومة عادل عبد المهدي، وحذرت من مغبته متعهدة بتقديم المتورطين بقصف قاعدة التاجي للقضاء، لم يحدد المواقع التي تخطط الولايات المتحدة لاستهدافها، رداً على قصف قاعدة التاجي العسكرية، شمالي بغداد، والذي أسفر عن مقتل جنديين أميركي وبريطاني، ومتعاقد أميركي آخر وجرح نحو 10 آخرين، أحدهم بحالة غير مستقرة، الأربعاء الماضي.
وأكد المسؤول أن الحراك الذي تم أمس، الجمعة، من قبل أطراف سياسية وحكومية وقيادات في الجيش لمنع الفصائل المستهدفة بالغارات الأميركية من الرد على الضربة ووقف التصعيد فشل، وقد تتم مهاجمة مصالح أميركية في أي وقت وبطريقة الاستهداف نفسها التي تعرضت لها قاعدة التاجي، أي عبر صواريخ "الكاتيوشا". ودعت "سيد الشهداء"، في بيان، الحكومة إلى السماح بالرد السريع على الضربات الأميركية أو العمل على إخراج القوات "المحتلة". موقف زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر كان مختلفاً، إذ دعا، في تغريدة، إلى "ضبط النفس، وتجنيب العراق التوترات والصراعات". وقال "نحن لسنا دعاة سلم مع المحتل، إلا أننا نراعي الظروف المحيطة بالشعب العراقي".
وفي واشنطن، اعتبر قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكينزي، في مؤتمر صحافي، أن التهديد الذي تمثله إيران لا يزال كبيراً، وذلك على الرغم من تعبيره عن اعتقاده بأن الضربات الأميركية، التي استهدفت خمسة مواقع، ستردع "الهجمات المستقبلية المماثلة"، في إشارة إلى الهجوم الصاروخي على قاعدة التاجي. وأضاف "أعتقد أن التهديد لا يزال مرتفعاً بشدة، وأرى أن التوتر لم ينخفض في الواقع". وأشار إلى أنه "بعد مقتل سليماني أصبح من الأصعب على إيران اتخاذ قرارات وإصدار توجيهات الحرب بالوكالة".
واعتبر ماكينزي أن "الضربات في العراق تبعث رسالة واضحة بأن الولايات المتحدة لن تتهاون مع الهجمات الإيرانية غير المباشرة، بأسلحة توفرها إيران". وفي تحذير مبطن عن جهوزية القوات الأميركية لاستهداف مواقع أخرى تابعة لـ"حزب الله"، قال ماكينزي: "هناك أهداف أخرى تخص كتائب حزب الله، لم نضربها تحلياً بضبط النفس"، مشيراً إلى أنه يجري نقل صواريخ باتريوت إلى العراق وإنها "ستكون جاهزة هناك خلال أيام"، وأن "حاملتي طائرات ستواصلان العمل في منطقة القيادة المركزية". وكشف ماكينزي أن واشنطن تشاورت مع بغداد في أعقاب الهجوم على قاعدة التاجي، موضحاً "كانوا يعلمون أن الرد آتٍ"، مشدداً على أن واشنطن "تحركت دفاعاً عن النفس". وأعرب عن اعتقاده بأن "العراق يدرك قيمة القوات الأميركية في التصدي لتنظيم داعش، وأن الولايات المتحدة ستتمكن من المحافظة على وجودها" في العراق.
وفي لندن، اعتبر وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب أن الضربات الأميركية كانت رداً "متكافئاً" على مقتل أميركيَّين وبريطانية في هجوم صاروخي. وقال راب، في بيان، إن "الردّ على الهجوم الجبان ضد قوات التحالف في العراق كان سريعاً وحاسماً ومتكافئاً". وأضاف "سنواصل العمل مع شركائنا لضمان محاسبة المسؤولين عن هذه الأعمال المؤسفة". وتابع "القوات البريطانية ملتزمة في العراق مع شركائها في التحالف لمساعدة البلاد في مواجهة الأنشطة الإرهابية، وأي طرف يسعى لإيذائه يمكن أن يتوقع رداً قوياً".
وعلّقت وزارة الخارجية الإيرانية على اتهام الرئيس الأميركي دونالد ترامب لطهران بدعم مجموعات نفذت الهجمات على قاعدة التاجي، بوصفه "هروباً إلى الأمام". وقال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية عباس موسوي، في بيان، إن "أميركا لا يمكنها إلقاء مسؤولية تبعات حضورها غير الشرعي في العراق وردة فعل أهاليه على اغتيال قادة ومقاتلين عراقيين على الآخرين"، معتبراً أن ذلك "هروب إلى الأمام". ودعا الرئيس الأميركي إلى "إعادة النظر بشكل أساسي في حضور وسلوك القوات الأميركية في المنطقة، وتجنب تصرفات خطيرة ورمي اتهامات واهية ونشر فيروس الإسقاط".
وحذر الرئيس العراقي برهم صالح من أن البلاد قد تنزلق إلى الفوضى "وحالة اللادولة". وقال، في بيان، إن "الانتهاكات المستمرة التي تتعرض لها الدولة هي إضعاف ممنهج وخطير لقدراتها وهيبتها، بالتزامن مع مرحلة يواجه فيها العراق تحديات جسيمة وغير مسبوقة، سياسياً واقتصادياً ومالياً وأمنياً وصحياً". وأضاف "من شأن هذه المخاطر، إذا ما استمرت، الانزلاق بالعراق إلى حالة اللادولة والفوضى، لا سيما إذا تواصل التصعيد الأمني مع توفر المؤشرات حول محاولة عناصر داعش الإرهابي استعادة قدرتهم على تهديد أمن الوطن والمواطن". واستدعت وزارة الخارجية العراقية السفيرين الأميركي ماثيو تولر والبريطاني ستيفن هيكي، وذلك بعد اجتماع وزير الخارجية العراقي محمد علي الحكيم مع وكلاء ومستشاري الوزارة.
وفي حين انتقدت قيادة العمليات العسكرية العراقية المشتركة، في بيان، "الاعتداء الأميركي السافر"، واضعة إياه في إطار انتهاك السيادة، فإنها اعتبرت أن "التذرع بأن هذا الهجوم جاء كرد على العمل العدواني الذي استهدف معسكر التاجي ذريعة واهية وتقود إلى التصعيد ولا تقدم حلاً للسيطرة على الأوضاع، بل يقود إلى التصعيد وتدهور الحالة الأمنية في البلاد ويعرض الجميع للمزيد من المخاطر والتهديدات. كما أنه تصرف خارج إرادة الدولة العراقية واعتداء على سيادتها ويقوي التوجهات الخارجة عن القانون. فلا يحق لأي طرف أن يضع نفسه بديلاً عن الدولة وسيادتها وقراراتها الشرعية".
وتفاوتت حصيلة ضحايا القصف الأميركي، الذي طاول خمسة مواقع في جرف الصخر والمسيب والإسكندرية ضمن محافظة بابل، جنوبي العراق، وموقعاً آخر قرب مطار قيد الإنشاء في كربلاء، وكذلك أقصى غرب الأنبار واستهدف مستودعات أسلحة وصواريخ أرض ـ أرض ومخازن لآليات ومعدات تابعة لفصائل مسلحة، أبرزها "كتائب حزب الله"، و"النجباء"، و"الإمام علي"، و"سيد الشهداء"، من مصدر لآخر، لكن أكثرها موثوقية تحدث عن 10 قتلى وأكثر من 60 مصاباً، بينهم مسؤول في استخبارات "كتائب حزب الله" أصيب بجروح خطيرة. لكن السلطات العراقية تحدثت عن ستة قتلى فقط ونحو 11 جريحاً، بينما بدت الخسائر المادية في ترسانة تلك الفصائل غير واضحة حتى الآن، بسبب نقل المحتويات المهمة والحساسة من تلك المواقع من قبل تلك الفصائل، الخميس الماضي، ضمن احتياطات اتخذتها بعد الهجوم على قاعدة التاجي العسكرية، شمالي بغداد.
ولم تسمح "كتائب حزب الله" لقوات الدفاع المدني بالدخول إلى مقراتها التي تعرضت للقصف، بحسب مصادر محلية في محافظة بابل، جنوبي بغداد، قالت إن أفراداً من الفصيل المسلح منعوا قوات الدفاع المدني والإطفاء والشرطة من دخول مواقعها، وتولت بنفسها معالجة آثار القصف، وهو السبب الذي أدى إلى تضارب بيانات خلية الإعلام الحكومي وقيادة العمليات المشتركة، وحتى المسؤولين المحليين في المدن التي وقعت فيها الهجمات.
وقال المتحدث باسم "كتائب سيد الشهداء" كاظم الفرطوسي، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، إن "جميع الجهات العراقية معنية بالرد على العدوان الأميركي، سواء كانت رسمية أو غير رسمية، وفصائل المقاومة في مقدمة هذه الجهات"، وفقاً لتعبيره. وبين الفرطوسي أن "الرد على هذه الجريمة والعدوان السافر، تكلف به بالدرجة الأولى الحكومة العراقية، فالاعتداء تم على مؤسسات عسكرية رسمية. أما فصائل المقاومة، فهي في حراك واسع وحوارات مكثفة من أجل الاتفاق على كيفية الرد، وتنفيذ ضربات يكون لها ضرر أكبر على الولايات المتحدة الأميركية. فهذا العدوان لن يمر، وسيتم الرد عليه بقوة". وأضاف المتحدث باسم "كتائب سيد الشهداء" أن "فصائل المقاومة العراقية كانت قد وضعت جدولاً للرد على الاعتداءات الأميركية السابقة، وهذا الجدول متفق عليه بين جميع الفصائل، بالإضافة إلى التيار الصدري. لكن الاعتداء الأخير ربما سيغير الجدول، ولهذا، الوقت أصبح الآن مفتوحاً أمام فصائل المقاومة، والحرب ستستمر".
في هذه الأثناء، رفعت القوات الأميركية من مستوى إجراءاتها الاحترازية في عدد من القواعد الموجودة فيها، فضلاً عن السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء ببغداد. وبحسب مسؤول أمن عراقي، فإن الإجراءات شملت قواعد التاجي وعين الأسد وبلد والمطار، فضلاً عن السفارة الأميركية، حيث يتوقع أن تشهد رشقات بصواريخ "الكاتيوشا" رداً على الهجوم الأميركي.
وأكد الخبير بالشأن الأمني العراقي وأستاذ الدراسات الأمنية في معهد الدوحة للدراسات العليا الدكتور مهند المشهداني أن استخدام الحكومة العراقية، في بيانها الرسمي الذي أعقب القصف الصاروخي على معسكر التاجي، الأربعاء الماضي، والذي تسبب بمقتل العسكريين الأميركيين والبريطاني عبارة "عملية إرهابية"، أعطى مبرراً للولايات المتحدة لتنفيذ الهجوم، موضحاً أنها المرة الأولى التي تستخدم فيها السلطات العراقية الرسمية عبارة "عملية إرهابية" على عمليات تنفذها فصائل مسلحة في العراق منذ العام 2003. واستبعد المشهداني، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن تكون طبيعة المواجهة المقبلة بالعراق على طريقة ضربة بضربة بين الولايات المتحدة والفصائل المسلحة، معتبراً أن الأخيرة "توغلت في مختلف مؤسسات الدولة الأمنية، وتشاركت بالقواعد والمعسكرات مع قوات الجيش، لذا فإن استمرار الولايات المتحدة بالقصف على هذا المنحى يعني سقوط خسائر أيضاً في صفوف القوات النظامية، كما أن واشنطن ولندن، وبحسب معرفتي، لا تريدان انهيار العلاقة مع بغداد بشكل كامل".
لكنه لم يستبعد استنساخ الولايات المتحدة تجربتها في أفغانستان خلال السنوات الماضية، من خلال إطلاق عمليات اغتيال لرؤوس مهمة بتلك الفصائل واستهداف مخازن وبنى تحتية لها بين وقت وآخر تساهم في إضعافها، ولن يكون الأمر مقتصراً على العراق، لكن سورية ستكون ساحة مواجهة أيضاً. وتابع "حالياً أعتقد أن الولايات المتحدة سترد بضربة أكبر وأوسع في حال تم استهداف مواقع ومعسكرات تابعة لها".