كرّست الرسائل التي عمل جاريد كوشنر، كبير مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصهره، على تمريرها في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة "القدس" الفلسطينية، ونشرتها اليوم الأحد، مخاوف الفلسطينيين من خطة التسوية التي تعهدت واشنطن بالإعلان عنها قريباً، والتي يطلق عليها اسم "صفقة القرن".
بدلاً من تفنيد الموقف الرافض للصفقة، والذي عبّرت عنه الكثير من قيادات ومسؤولي "منظمة التحرير" والسلطة الفلسطينية، الذين اعتبروا أنها تمثل وصفة لتصفية القضية الفلسطينية، اختار كوشنر أن يتحدى رئيس السلطة محمود عباس، وتوعده بأن إدارة ترامب لن تنتظره، وستقوم بالإعلان عن بنود الصفقة، من دون موافقة عباس وتعاونه.
ولم يترك كوشنر مجالاً للشك بأن الخطة العتيدة تمثل في أحسن الأحوال نمطاً من أنماط الرشوة الاقتصادية، التي يتنازل الفلسطينيون بموجبها عن حقوقهم الوطنية والتاريخية، مقابل تحسين أوضاعهم الاقتصادية، ولم يتردد في الزعم بأن الفلسطينيين جاهزون لقبول هذه الرشوة.
وقال كوشنر "أعتقد أن الشعب الفلسطيني أقل اكتراثاً بنقاط الحوار بين السياسيين، وأكثر اهتماماً بما يمكن للصفقة أن توفره له وللأجيال المقبلة، من فرص جديدة والمزيد من الوظائف ذات الأجور الأفضل، وآفاق للوصول إلى حياة أفضل".
وواصل كوشنر مقاربته مستخفاً بالوعي الوطني الجماعي للفلسطينيين، قائلاً إن "الشعب الفلسطيني إذا حصل على استثمارات ضخمة في البنية التحتية، وتدريب مهني وتحفيز اقتصادي، يمكن أن يصبح من قادة العصر القادم".
والواضح أن نقاط "الخلاف الأساسية" التي يطالب كوشنر الشعب الفلسطيني بتجاهلها وعدم الاكتراث بها، تتعلق بالقضايا الرئيسة التي تشكل جوهر الصراع مع الاحتلال: القدس، اللاجئون، الأرض، السيادة، مستقبل المستوطنات وغيرها، والاستعاضة عنه بالاهتمام بواقعهم الاقتصادي والمادي.
فمن خلال حرصه على الاستخفاف بمعالجة قضايا الصراع الرئيسة، فإن كوشنر يضفي صدقية على التسريبات التي زخرت بها وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية بشأن الصفقة، والتي أشارت إلى أنها تطالب الفلسطينيين بقبول بقاء جميع المستوطنات في الضفة الغربية، وتنازلهم عن حق العودة، والقدس، والسيادة وغيرها.
في المقابل، أحجم كوشنر عن توجيه أي انتقاد لسلوك حكومة اليمين المتطرف في تل أبيب، التي تجاهر بإعلانها عدم استعدادها للوفاء بأي متطلبات تضمن تحقيق تسوية سياسية للصراع، ناهيك عن أنه تجنب تبديد المخاوف من المواقف التي عبر عنها السفير الأميركي في القدس المحتلة ديفيد فريدمان، الذي نفى أن يكون التواجد الإسرائيلي في الضفة الغربية ضربا من ضروب الاحتلال، إلى جانب انتقاده للمطالبة بتفكيك المستوطنات في الضفة.
لكن أكثر ما يسترعي الاهتمام في مقابلة كوشنر، هو تطرقه لمستقبل الأوضاع في غزة وتفسيره الحرص الأميركي على معالجة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في القطاع.
لقد أكد كوشنر أن قطاع غزة سيمثل البوابة التي تمر خلالها "الصفقة" العتيدة، إذ قال "نتطلع إلى غزة عن قرب، وقد أمضينا الكثير من الوقت مع شركائنا، ونأمل أن نطرح أفكاراً للتخفيف من بعض الضغوط..قلنا منذ البداية إنه لا يوجد طريق للسلام دون إيجاد حل لغزة".
وبذلك يلمح كوشنر إلى صحة التسريبات المتعلقة بدور قطاع غزة ضمن الخطة الأميركية، والتي أكدت أن القطاع سيمثل الفضاء الجغرافي الرئيسي الذي سيتم عبره تنفيذ "الصفقة"، لا سيما أن صحيفة "هآرتس" كشفت قبل يومين أن كوشنر سعى خلال جولته الأخيرة في المنطقة إلى إقناع قادة دول الخليج، بتجنيد مليار دولار لتدشين بنى تحتية في شمال سيناء، بهدف تحسين الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة.
ومما لا شك فيه أن حديث كوشنر عن دور شركاء واشنطن الإقليميين في كل ما يتعلق بالمخططات المتعلقة بقطاع غزة، يمثل تحديداً إشارة إلى الدور المصري في تمرير "الصفقة".
من الواضح أنه في حال تبين أن نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي قد وافق فعلاً على تدشين منظومة البنى التحتية الخاصة بتحسين الأوضاع في غزة في منطقة شمال سيناء، فإن هذا يفاقم الشكوك بأن هذه الخطوة تعد تمهيداً لتنفيذ ما أشار إليه وزير الاتصالات الإسرائيلي أيوب قرا أكثر من مرة، إلى أن هناك مخططا لاقتطاع مساحة ستة آلاف كيلومترٍ مربع من شمال سيناء وإلحاقها بقطاع غزة، ليتم إعلان الدولة الفلسطينية على هذه المنطقة.
وتبنى كوشنر مقاربة الرشوة الاقتصادية ذاتها، في محاولة إغراء كل من مصر والأردن بالتعاون مع الخطة، حيث قال إنه "من الناحية الاقتصادية، أنت ترغب في إزالة الحدود والسماح للاقتصادات بأن تصبح أكثر تكاملاً لزيادة الفرص والازدهار لجميع الناس - بمن في ذلك الأردنيون والمصريون".
وهناك عبارة وردت على لسان كوشنر خلال المقابلة تبدو ملتبسة وتثير الشكوك، إذ تحدث عن ضرورة وجود "قيادة" في غزة تكون قادرة على الالتزام بوقف إطلاق نار مع إسرائيل، وتكون مستعدة للتجاوب مع الخطة.
وإن كان مستشار الرئيس الأميركي قد وصف "حماس" في المقابلة بـ"التشكيل الإرهابي" في الوقت الذي تحدى قيادة السلطة، واستخف بها بسبب قرار قيادتها عدم إجراء أي اتصالات معه ومع فريقه، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يستشف من ذلك أن الولايات المتحدة تعكف بالتعاون مع شركائها "الإقليميين" على تجهيز بديل ثالث لإدارة شؤون قطاع غزة، من خلال محاولة استغلال رغبة حماس في التخلص من أعباء الحكم في قطاع غزة، والبحث عن جهة محلية تكون مستعدة لإدارته، على أن تتولى الأطراف الإقليمية العربية إسناد هذه الجهة؟".