لماذا تبادر فرنسا للحفاظ على دينامية دولية داعمة لعملية السلام في الشرق الأوسط، وقيام دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة، وفقاً لمبدأ "حل الدولتين"؟ في مرحلة عالمية تشهد دفقاً من الأزمات والصراعات والحروب، وبات السلام الدولي فيها مجرد "وهم" في نظر كثيرين؟ هل ثمة من يعتقد في فرنسا أن تحقيق السلام ممكن في الشرق الأوسط؟ وأن مشروع الدولة الفلسطينية لا يزال قابلاً للتنفيذ في الآتي من الأيام؟ أم أن صناع القرار الفرنسي يفضلون التعويض عن انعدام التفاؤل وتضاؤل الفرص بحركة دبلوماسية، أو بالأحرى، بمثابرة دبلوماسية، تحول دون تبديد الأمل؟
الإصرار الفرنسي على المبادرة، والذي تجسّد أخيراً بتنظيم مؤتمر باريس حول السلام في الشرق الأوسط، في 15 يناير/كانون الثاني 2017، ليس مجرد ترف دبلوماسي. وهو أبعد من تسجيل موقف، أو حفظ ماء الوجه. وليس استعراضاً يراد منه لفت الأنظار، أو الظهور والبقاء تحت الأضواء الإعلامية. لهذا الإصرار الدبلوماسي أكثر من معنى في التوقيت، وأكثر من جدوى في التكتيك، وهدف ثابت تأمل فرنسا الوصول إليه، لكنها لا تضع استراتيجية واضحة لهذه الغاية.
اختارت الدبلوماسية الفرنسية التحرك في لحظة مناسبة. لحظة انشغال الولايات المتحدة بعملية انتقال السلطة إلى إدارة جديدة. من المفيد إذاً انتهاز فرصة غياب الفعل المباشر للدبلوماسية الأميركية في هذا التوقيت، والقيام بخطوات تنسجم مع طموحات فرنسا بتكريس إدارة متعددة الأقطاب للصراعات الدولية والملفات الساخنة، والحفاظ على عالم متعدد الأقطاب. ومن المجدي أيضاً استباق بدء عمل الإدارة الأميركية الجديدة بخلق وقائع لا يمكن أن تتجاهلها في حال أرادت إعادة تحريك الملف الفلسطيني، أو خلق بنى تحتية للمواجهة، في حال باشرت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، انقلاباً محتملاً على مسار السلام العادل والشامل، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة ومبدأ "الأرض مقابل السلام"، الذي نادى به مؤتمر مدريد للسلام عام 1991.
وللتوقيت دوافع داخلية فرنسية. الرئيس فرانسوا هولاند تحرر، بعدما قرر عدم الترشح لولاية رئاسية ثانية، من أي ضغط وابتزاز انتخابي من قبل مؤيدي إسرائيل في فرنسا (مهما كان تأثيرهم الانتخابي صغيراً مقارنةً مع الخريطة الانتخابية الأميركية مثلاً). كما أن تمسكه بتنظيم مؤتمر باريس يعبر عن التزامه بتعهد أطلقه خلال حملته الانتخابية الرئاسية عام 2012، قال فيه إنه سيدعم الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية. لا شك أن هولاند طرح صيغة غامضة لا تحتوي على وعد واضح في الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة خلال عهده الرئاسي، لكنه سيغادر الإليزيه، في مايو/أيار 2017، مجاهراً بأنه طبّق الشق المتعلق بالمسألة الفلسطينية في برنامجه الانتخابي. وتبقى المبادرة تجاه الملف الفلسطيني مفيدة للدبلوماسية الفرنسية على عدة مستويات تكتيكية. أرادت فرنسا، من خلال مؤتمر باريس، صيانة موقعها كلاعب مؤثر في أزمات الشرق الأوسط، بعد إقصائها عن الملف السوري، أو على الأقل تقليص دورها حياله. وأصبح الملف الفلسطيني، ولو مؤقتاً، بوابة لعودة الدبلوماسية الفرنسية إلى نادي الدول الفاعلة في إدارة أزمات هذه المنطقة.
والجدوى التكتيكية الأخرى، تتمثل في تكريس بُعد دولي للتضامن مع القضية الفلسطينية، وإظهار أن طرفا غربيا يقوم بدور محامي الدفاع عن حق الفلسطينيين في دولة مستقلة. هذا الاحتضان الغربي لهم يفيد فرنسا والغرب عموماً، لأنه يقطع الطريق على أي طرف دولي آخر، أو إقليمي، لاحتكار عملية الدفاع عن القضية الفلسطينية، وللمزايدة في هذا الشأن. ولعل الطرف المستهدف هنا بشكل مباشر هو إيران، التي تستعد، على ما يبدو، لإعادة استخدام الورقة الفلسطينية في الأيام المقبلة. توجيه صفعة لرئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو من خلال وضع مطبات دولية أمام تحركاته وسياساته، هو مناورة تكتيكية ناجحة للدبلوماسية الفرنسية، لا يمكن تجاهلها. فالتعامل مع الاستيطان في الأراضي المحتلة بعد يونيو/حزيران 1967، كعقبة أساسية لعملية السلام، في وقت يتحايل فيه رئيس حكومة الاحتلال محاولاً استئناف المفاوضات الثنائية مع الفلسطينيين، من دون وقف الاستيطان، يعني تشديد الضغط الدولي على نتنياهو، واحتواء مناوراته، وفرض عليه بند وقف الاستيطان كشرط أساسي في المسار التفاوضي، ووضعه بالتالي في مأزق.
ويبقى الهدف الأهم للدبلوماسية الفرنسية يتمثل في قيام دولة فلسطينية مستقلة. وهو هدف بات من أدبيات السياسة الخارجية لفرنسا منذ عام 1967، على الرغم من كل المآخذ والإخفاقات التي يمكن تسجيلها بحقها في هذا الصدد. لكن الاكتفاء باستمرار فعل المبادرة لإبعاد الفشل، هو اعتراف ضمني بأن الهدف المنشود بعيد المنال. بمعنى آخر، إن إبقاء الدينامية الدولية الداعمة لقيام دولة فلسطينية مستقلة تحت سقف التمنيات والدبلوماسية الناعمة، يعني تمسكاً بالهدف، لكنه لا يوضح كيف سيتحقق هذا الهدف. من هنا يأتي الحديث عن ضرورة وضع استراتيجية لتحقيق ما ترومه الدبلوماسية الفرنسية في شأن المسألة الفلسطينية. بإمكان فرنسا تكرار موقفها بأن أي سياسة تهدف إلى إلزام إسرائيل بالانسحاب والتراجع، لن تنجح من دون مشاركة الولايات المتحدة. وبإمكان صناع القرار القول إن باريس تقوم بما في وسعها القيام به. لكن مع مرور 50 سنة على ذكرى حرب يونيو/حزيران 1967، تستحق الدبلوماسية الفرنسية وقفة شبيهة بوقفتها التاريخية آنذاك، حين فرضت عقوبات أحادية الجانب على إسرائيل، لمعاقبتها على قرار شن الحرب واحتلالها الأراضي العربية. وتستطيع فرنسا، ومعها أوروبا، البدء باعتماد دبلوماسية دولية عقابية ضد إسرائيل، لإجبارها على الانسحاب من الأراضي ووقف الاستيطان، وإلزامها بتطبيق حل الدولتين. وغياب سياسة كهذه يمنع أي مبادرة من أن تؤدي إلى نتائجها المرجوة. وهذا ما دفع البعض إلى التعليق على مخرجات مؤتمر باريس بالقول: "تمخض الجبل فولد فأراً".
إن مبادرة فرنسا قد تجنبها تهمة التواطؤ مع دولة الاحتلال. ويمكن استخدامها لترويج فكرة انتقال المجتمع الدولي، وفرنسا، من حالة التقاعس السلبي إلى حالة التقاعس الإيجابي. لكن السياسة الخارجية الفرنسية لا يمكن أن تبقى محكومة بإطلاق مبادرات تعبّر عن رفض الممارسات الإسرائيلية ومحاولات إسرائيل فرض أمر واقع في الأراضي المحتلة، من دون أن تساهم بخلق ظروف كفيلة بوضع حد لتلك الممارسات والمحاولات.