وتظهر مواقف ماكرون معارضته الواضحة لأقرانه من الأوروبيين الذين يتغنون ويعتمدون في أمنهم على حلف شمال الأطلسي والضمانات والوعود الأميركية، وهو ما أكدته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الأسبوع الماضي، وخلال النقاشات العامة للبوندستاغ، مشددة على دور ألماني قوي في الحلف، قبل أن تلفت إلى أهمية أنه لا يمكن لأوروبا أن تدافع عن نفسها في الوقت الحالي، وهذا ما يجب أن يدفع برلين للعمل أكثر من أجل الائتلاف وتحمّل المزيد من المسؤولية، كما لأجل وحدة "الناتو"، مشيرة في الوقت نفسه إلى ضرورة بقاء تركيا فيه لأسباب جغرافية واستراتيجية.
من جهته، كان لوزير الخارجية الألماني هايكو ماس أخيراً، خلال إحدى فعاليات مؤسسة "فريدريش أيبرت" في برلين، موقف في هذا الإطار، حيث عبّر عن قلقه حيال الفصل بين الأمن الأوروبي والأميركي، معتبراً أن أفكار ماكرون من شأنها أن تقسم أوروبا، قائلاً: "أوروبا لا تحتاج إلى خنادق جديدة، بل إلى مزيد من التماسك"، مع تشديده على ضرورة أن تتحمل أوروبا "مسؤولية أكبر عن أمنها"، وعلى أنه على الأوروبيين العمل بشكل أوثق معاً، في تطوير المهارات المشتركة ولتكون الشراكة عبر الأطلسي متوازنة بشكل أفضل".
تجدر الإشارة إلى أن ألمانيا ستزيد الإنفاق الدفاعي لحلف "الناتو" إلى 1,42% من الناتج المحلي الإجمالي، و1,5% عام 2024، و2% أوائل العام 2030، هذا في وقت تعتبر بعض دول الحلف أن نسبة 2 بالمائة، التي يضغط الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أجل إنفاقها على الدفاع لحلف "الناتو"، فيها الكثير من العربدة.
كذلك، فإن خيارات ماكرون وتصريحاته لم ترضِ الأمين العام لـ"الناتو"، إذ اعتبر الأخير أن موقف الحلف واضح وصريح، فهو يعتبر أن روسيا، ومنذ غزوها لشبه جزيرة القرم، أصبحت أكثر عدائية، في تجنب منه لاستخدام كلمة عدو، وفق ما ذكرت "تاغس شبيغل"، وذلك لإبقاء باب الحوار مفتوحاً بين "الناتو" وروسيا.
وسط هذا الاختلاف في التوجهات الاستراتيجية لدى أكثر دولتين مؤثرتين في القارة الأوروبية، يعتبر خبراء في الشؤون الأوروبية أن ماكرون ربما يريد أن يعطي العلاقة مع موسكو دينامية جديدة، علما أن "فرانكفورتر الغماينه تسايتونغ" ذكرت أخيراً، أن الرئيس الفرنسي توجه برسالة إلى بوتين، وعده فيها بالنظر بالمقترح الخاص بالوقف الاختياري للصواريخ الأرضية متوسطة المدى.
من جهة ثانية، يبدو أن ماكرون يريد طرحاً لإعادة صياغة حقوق وواجبات الحلفاء خلال قمة "الناتو" المقررة هذا الأسبوع في لندن، والسبب التصرف غير المقبول من إحدى دول "الناتو"، تركيا، واتخاذها القرار من جانب واحد بشنّ عملية في شمال سورية، وتعريض أمن حلفائها الأوروبيين للخطر، الأمر الذي أدى إلى وصفه بأنه في حالة "موت دماغي"، وقد يكون القصد منه دعوة للاستيقاظ لشركائه في "الناتو". كل ذلك، وسط الخشية التي تزداد لدى الأوروبيين الشرقيين من أن تسعى باريس في النهاية، إلى تطبيع العلاقات مع موسكو على حساب أمنهم، فيما واقع السياسة الأميركية لحلف "الناتو" يتعارض مع تصريحات الرئيس ماكرون، وهذا ما ذكره الأمين العام للحلف في مقابلته مع شبكة "إيه آر دي" الإخبارية.
أمام هذا الواقع، اعتبرت "تاغس شبيغل" أن باريس وضعت "الناتو" على المحك، في ما يتعلق بالمال وميزانيته المشتركة، كما وأن خطوة وزير الخارجية الألماني ماس لتشكيل لجنة خبراء تقترح كيف يمكن أن يصبح "الناتو" من جديد منبراً للتصويت السياسي الوثيق عبر المحيط الأطلسي، ليست سوى إنكار لتشخيص ماكرون، وليستنتج من كلّ ما يحصل أن هناك شيئاً ما خطيراً، وأن العلاج ضروري لأن الافتقار إلى التنسيق الاستراتيجي قد يمزّق العلاقة فعلاً بين شركاء "الناتو".