بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن القدس، جاء دور قضية اللاجئين. وليس في ذلك صدفة، فكلاهما يندرج، على ما يبدو، ضمن خطة أميركية - إسرائيلية لترجمة مقاربة جديدة تقوم على قلب القاعدة المعمول بها، بحيث يُصار أولاً إلى تصفية متعسفة للبنود الخلافية الرئيسية بين الفلسطينيين وإسرائيل، (بالأمس القدس واليوم اللاجئون وربما غداً الحدود) بزعم تسهيل التفاوض؛ ثم تنصبّ الضغوط لعقد المفاوضات، على أساس المستجدات القائمة، لفرضها كأمر واقع.
وكان ترامب قد ألمح إلى هذه المقاربة، عندما قال بعد إعلانه القدس عاصمة لإسرائيل، إنّ خطوته هذه أزاحت عقدة صعبة من طريق المفاوضات، وإنّ على الفلسطينيين الجلوس على طاولتها. والآن، تجري نفس المحاولة لشطب بند اللاجئين إذا أمكن، من مدخل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا".
بدأ ذلك مع حلول الأول من يناير/كانون الثاني الجاري، موعد تسديد جزء (125 مليون دولار) من المتوجب على واشنطن (364 مليون دولار)، في الموازنة السنوية للوكالة (874 مليون دولار)، وذلك عندما جمّدت الإدارة الأميركية، ولا تزال، دفع المستحق.
السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، شنّت حملة لوقف التمويل، من باب أنّ واشنطن تقدّم المساعدات ولا تتلقّى البدل. وهو شعار رفعه ترامب، خلال حملته الانتخابية، وبدأ كرئيس في تطبيقه ولو بصورة استنسابية، كان آخرها قراره بوقف المساعدات إلى باكستان، لأنّها "لا تفعل ما تطلبه منها واشنطن".
كان من الواضح، أنّ السفيرة تتحدّث بلسان ترامب، إذ بقي وزير الخارجية ريكس تيلرسون، خارج الموضوع، رغم أنّه هو المعنيّ به أصلاً. أثار إعلانها لهذا الموقف تساؤلات عن الغاية من ورائه، لا سيما وأنّ الوكالة محصورة نشاطاتها في القضايا الإنسانية والتعليمية والصحية، ولا علاقة لها بالسياسة.
من المسوّغات التي تردّدت، أنّ التوجّه لوقف التمويل جاء ردّاً على تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بشأن رفض قرار ترامب حول القدس. وثمة تسريبات تفيد بأنّه أتى كردّ على رفض السلطة الفلسطينية استقبال نائب الرئيس مايك بنس، الذي سيبدأ زيارة للمنطقة في 20 يناير/كانون الثاني الجاري. وفي تفسير آخر، أنّ الإدارة الأميركية توسّلت هذه الورقة، للضغط على رام الله، لحملها على التفاوض، والقبول بمشروع صهر ترامب، جاريد كوشنر، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "كوشنر - نتنياهو" الموعود.
وكان سبق وجرى التلويح بخطوات "تأديبية" ضدّ السلطة الفلسطينية، مثل وقف المساعدات المالية لها، واحتمال إغلاق مكتب بعثتها في واشنطن، إذا تلكّأت عن التفاوض مع إسرائيل. ربما هذا أو ذاك أو كله يجري ترويجه، تحت زعم أنّ الجانب الفلسطيني "يأخذ الأموال ولا يجلس في أقلّه على مائدة المفاوضات".
لكن هذا الترويج مكشوفة أبعاده، حتى وزارة الخارجية الأميركية بدت مرتبكة في التعامل معه، إذ تبدو غير موافقة ضمناً على القرار، خاصة أنّ المتحدثة الرسمية باسمها، هيذر ناورت، قالت إنّ وقف تمويل "أونروا" لم يحصل بعد، وإنّ الموضوع ما زال قيد الدراسة.
كلامها يتضارب مع لغة السفيرة هيلي الجازمة في العزم على قطع التمويل الأميركي. وكان قد تقرّر، في مطلع الأسبوع، عقد اجتماع بين أركان الإدارة الأميركية للبتّ في الأمر. لكن لم يتحدّد موعد لهذا الاجتماع. الأمر الذي أوحى بوجود تباينات حوله بين المسؤولين، على غرار ما جرى في موضوع القدس. والأرجح أن ينتهي بالحسم، حسب ما رسمه خطاب هيلي.
والسفيرة المتحدّثة ضمناً باسم الرئيس ليست وحدها، إذ يساند خطابها ويشجعه فريق واسع في الكونغرس، يهدد، منذ زمن، بورقة التمويل والمساعدات. كما ترفده جوقة في الإعلام وبعض مراكز الدراسات، تحرّض ضد وكالة "أونروا"، بزعم أنّها "ترسّخ ثقافة الإعاشة والاتكال على الآخرين... وبما يؤبّد حالة اللجوء"، كما يزعم ريتشارد غولدبرغ، الباحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات اليمينية، التوجّه في واشنطن.
ويذهب غولدبرغ في التزوير، إلى حدّ إنكار وجود لاجئين فلسطينيين أصلاً، بزعم "أنّهم لم يسبق لهم أن عرفوا، لا هم ولا آباؤهم أو أجدادهم، بيتاً لهم، إلا في المخيم أو في إحدى الدول العربية". كلامه يعكس خلفية موقف الإدارة من "أونروا"، فالمسألة ليست مالية في حقيقتها، بقدر ما هي محاولة لفرط الوكالة من خلال تفليسها، وهي مديونة الآن، وانسحاب واشنطن صاحبة الحصة الأكبر في موازنتها، منها تدريجياً، وبما يعرقل مهمتها، وبالتالي يجعلها غير ذات شأن؛ أي بما يُسقط قضية اللاجئين، كما ترغب إسرائيل، بحيث تنتفي سيرة "حق العودة".
عند إنشاء "أونروا" عام 1950، نصّ قرارها الدولي على تكليفها بتقديم العون إلى اللاجئين الفلسطينيين ولغاية عودتهم. بذلك ارتبط اللجوء بالعودة، وهي نغمة لا تطيق إسرائيل سماعها. ولهذا تستعين بإدارة ترامب المطواعة للخلاص، إذا أمكن، من الوكالة، كمقدّمة للخلاص من قضية اللاجئين.