طريق الحرير الموازي... ثورة اقتصادية عالمية بارتدادات سياسية

05 سبتمبر 2016
ميناء بندر عباس الإيراني أساسي في المشروع (مجيد سعيدي/Getty)
+ الخط -
"طريق الحرير"، أشهر الخطوط التجارية العابرة للقارات القديمة، بين الشرق الآسيوي والغرب الأوروبي، مروراً بالشرق الأوسط والشمال الإفريقي، مصر خصوصاً. طريق لم يعد كافياً، ولا ملبيّاً لطموحاتٍ روسية وإيرانية، في ظلّ العولمة التجارية ـ السياسية المتشعّبة، المعطوفة على الحروب المتناسلة في الشرق. دفع هذا إلى تزايد الاهتمام بمشروع، لا يزال العمل به بطيئاً، ومن المتوقع أن يُحدث، بعد استكماله، ثورة كبرى في عالم النقل والمواصلات، معززاً الأسواق التجارية في الوسط الآسيوي، فضلاً عن تكريس تحالفات سياسية جديدة. "طريق الحرير الموازي"، يهندسها الروس والإيرانيون والهنود، بطول يناهز الـ5600 كيلومتر من الطرق الأساسية، وآلاف الكيلومترات من الطرق الفرعية.

البداية كانت في 16 مايو/أيار 2002، حين وقّعت روسيا وإيران والهند، على اتفاقية لتأسيس "خط النقل الشمالي ـ الجنوبي"، أي "طريق الحرير الموازي"، بعد اتفاق أولي في 12 سبتمبر/أيلول 2000، لربط بحر قزوين والمحيط الهندي والخليج العربي، بشبكة مواصلات تجارية، تصل الشرق بالغرب عبر الداخل الآسيوي، لا عبر البحر المتوسط وقناة السويس. الهدف الأساسي للمشروع، بحسب مؤسسيه، هو كسب المزيد من الوقت وتوفير الكثير من الأموال التي تُجبى من خلال خطوط النقل الأساسية. حتى أن اتحاد الشحن الهندي أجرى دراسة، كشفت أن "كلفة النقل عبر الطريق الجديد، ستكون أقل بـ30 في المائة مالياً، وأقصر بـ40 في المائة من خط المواصلات التقليدي". كما يعتقد المحللون أن الطريق الجديد سيفعّل خطوط التجارة بين مدن رئيسية، كمومباي الهندية، وموسكو وأستراخان الروسيتين، وطهران وبندر عباس وبندر أنزلي الإيرانية، وباكو الأذرية. ويمتد الطريق بشكل رئيسي، من ميناء مومباي الهندي إلى ميناءي بندر عباس وشاباهار الإيرانيين، مروراً بإيران وأذربيجان وأرمينيا وروسيا، وصولاً إلى ميناء سانت بطرسبرغ الروسي، شرقي بحر البلطيق، وعبره إلى أوروبا الغربية، واسكندنافيا، وصولاً إلى بريطانيا. ويتضمن الطريق الرئيسي عشرات الطرق الفرعية التي تربط بلدانا عدة، واقعة على طرفي الطريق الرئيسي. فضلاً عن ذلك، يقول خبراء على صلة بالمشروع الجديد، إنه يوفر "نحو 2500 دولار لدى كل عملية نقل لـ15 طناً من البضائع".

ومع اتضاح جدّية المشروع، انضمت دول عدة إلى روسيا وإيران والهند، وهي تركيا وأذربيجان وكازاخستان وأرمينيا وبيلاروسيا وطاجيكستان وقيرغيزستان وعمان وسورية وأوكرانيا وبلغاريا (بصفة عضو مراقب). مع العلم أن انضمام أوزبكستان إلى المشروع، سيُسهّل عملية نقل البضائع من وإلى قيرغيزستان وطاجيكستان، بدلاً من اعتماد كازاخستان كطريق فرعي.

تقنياً، تمّ البدء بالعديد من المشاريع المتفرقة على امتداد الطريق، بغية تحقيق الوصل الكامل، في مرحلة لاحقة لم يتم تحديدها بعد. فقد بوشر العمل على ربط خطوط المواصلات بين الهند وإيران وأذربيجان وروسيا وكازاخستان، براً وبحراً. وبدأت إيران أعمال البناء على خط قزوين ـ راشت ـ أسترا، بطول 369 كيلومتراً، والمتضمن تشييد نحو 15 جسراً و22 نفقاً.

كما بوشر العمل، بشكل ثنائي بين الهند وإيران في عام 2002، على تنمية وتوسيع ميناء شاباهار، الذي تكمن أهميته في عمق مياهه، القادرة على حمل سفن الشحن التي تزن أكثر من 100 ألف طن، وهو الأمر غير المتوفر لدى ميناء بندر عباس، رغم مرور 85 في المائة من التجارة البحرية الإيرانية عبره. ومن المتوقع أن تصل نسبة الشحن عبر ميناء شاباهار إلى أكثر من 12.5 مليون طن من البضائع سنوياً، علماً أن الحركة السنوية فيه حالياً، تبلغ 2.5 مليون طن. ولشاباهار أهمية قصوى لدى الهند، التي تتطلّع إلى اعتباره بوابتها الرئيسية إلى أوروبا، وفقاً لما أعلن اقتصاديون ومحللون هنود.


طريق فرعي آخر يُعمل به، طريق كازاخستان ـ تركمانستان ـ إيران، الذي يربط بين أوزين الكازاخستانية وبيريكيت ـ إيتريك التركمانستانية وكركان الإيرانية، بطول 677 كيلومتراً. وسيتم ربط الخط من كركان إلى الخليج العربي. يكلّف المشروع نحو 260 مليون دولار، على أن تموّله الحكومات الثلاث المعنية. وتجدر الإشارة إلى أن مدينة بيريكيت التركمانستانية، تُعتبر في غاية الأهمية، بالنسبة للمشروع، لكونها مركز ربط رئيسيا لأوزبكستان وشرق كازاخستان، وقريبة من بحر قزوين.

طريق فرعي آخر يربط أرمينيا بإيران، بات في صلب المشروع، بعد الإعلان في 28 يوليو/تموز 2012، عن تسليم شركة "راسيا"، ومركزها دبي الإماراتية، حق إنشاء وتشغيل الطريق الجديد. أهمية المشروع، يكمن في ربطه "طريق الحرير الموازي" بالبحر الأسود، عبر أرمينيا، قبل عبوره إلى تركيا، بطول 316 كيلومتراً، بين غافار، بالقرب من بحيرة سيفان (50 كيلومتراً شرق يريفان الأرمينية) ومدينة ميغري الإيرانية. وفي 24 يناير/كانون الثاني 2013، تمّ الإعلان عن مشاركة شركة السكك الحديدية الروسية وشركة البناء الصينية، في المشروع. وسيتم نقل نحو 25 مليون طن من البضائع سنوياً على هذا الطريق. ويتضمن الطريق نحو 84 جسراً و60 نفقاً. دور هذا الطريق، سيكون الربط بين الخليج العربي، عبر إيران، ثم أرمينيا، وصولاً إلى البحر الأسود عبر تركيا.

أما ميناء أسترا، فيُعدّ من المشاريع البحرية الإيرانية المرافقة للطريق الأساسي، وذلك بعد إعلان طهران في مارس/آذار 2013، عن تطويره. ويقع الميناء على الحدود مع أذربيحان على بحر قزوين. وقد استثمر الايرانيون 22 مليون دولار في الميناء الجديد، ورفعوا الاستثمار فيه بنسبة 10 في المائة. ووفقاً لعملية التطوير، سيُصبح الميناء قادراً على استقبال 3 ملايين طن من البضائع سنوياً بدلاً من 600 ألف طن سنوياً في الوقت الحالي. وسيسمح الميناء الجديد، لرابطة الدول المستقلة (الدول السابقة في الاتحاد السوفييتي) بشحن الحبوب الغذائية إليه أولاً، ثم إلى ميناء بندر عباس ثانياً، فإلى القارة الإفريقية.

لهذا المشروع أهمية قصوى، في ملف بحر الصين الجنوبي، فالبضائع التي تصل إلى ميناء مومباي، قبل أن تتجه نحو الشرق الآسيوي، ستعبر البحر الصيني، المتنازع عليه حالياً، الذي يعبره خُمس التجارة العالمية سنوياً. كما أنه سيسمح لميانمار في الاعتماد عليه في التصدير والاستيراد. فضلاً عن ذلك، فإن الاتحاد الأوراسي، الذي أسسته روسيا في عام 2010، قبل التوقيع على الاتفاق "الاقتصادي الأوراسي" مع بيلاروسيا وكازاخستان في عام 2014، بات يضمّ خمس دول أساسية (مع أرمينيا وقيرغيزستان) في "خط النقل الشمالي ـ الجنوبي". اتضح أن "الاتحاد الأوراسي" مجرد محطة ثانوية، في مشروع "طريق الحرير الموازي".


قد يسمح هذا الخط أيضاً في تحقيق السلام في العلاقات الأذرية ـ الأرمينية خصوصاً حسم مسألة النزاع في ناغورني ـ كاراباخ، والأرمينية ـ التركية في إنهاء مسألة المذابح الأرمينية في عام 1915، وذلك لحاجة الجميع إلى البحر الأسود من جهة، ولمشاركتهم في المشروع من جهة ثانية. في هذ السياق، تُعتبر تركيا أساسية في المشروع، إذ يتم ربط الخط الأساسي فيها، في مدينة مالاطيا، ثم يتفرّع إلى مدينة سامسون على البحر الأسود، وأنقرة فاسطنبول فمضيق البوسفور ثم اليونان وبلغاريا وأوروبا، كما يتفرّع الخط من مالاطيا باتجاه مدينتي مرسين والإسكندرون على البحر المتوسط.

في البحر الأسود، يعمل الروس الذين سيطروا على شبه جزيرة القرم الأوكرانية في ربيع 2014، على إنشاء جسر يربط القرم بالأراضي الروسية في تامان، في مقاطعة كراسنودار، عبر مضيق كيرتش. ومن شأن هذا الجسر، تعزيز الحركة الاقتصادية في القرم، وترسيخ إبعاده عن أوكرانيا، في خطوة، يفترض أن تؤدي إلى القبول الأوكراني بالشروط الروسية، تجارياً وسياسياً، أو يصبح الساحل الأوكراني على البحر الأسود، عملياً بيد روسيا، نحو مولدافيا ورومانيا وغيرهما. مع العلم أن بيلاروسيا، جارة أوكرانيا، تُعتبر عنصراً رئيسياً في "طريق الحرير الموازي" إلى الشرق الأوروبي، بدءاً من بولندا.

بدورها، ستكون فنلندا محطة أساسية في البلطيق، مع اعتماد ميناء سانت بطرسبورغ الروسي على ميناء هلسنكي، ما سيؤدي حكماً إلى الضغط على دول البلطيق الثلاث (لاتفيا وإستونيا وليتوانيا) للقبول بدخول المشروع وفقاً للشروط الروسية. ومن المفترض أن يبلغ "طريق الحرير الموازي" السويد والنرويج وألمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا والدنمارك والجزر البريطانية.

وكان واضحاً أنه جرى إبقاء جورجيا خارج الطريق، بعد الحرب الخاطفة مع الروس في أغسطس/آب 2008، علماً أن أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، اللذين أعلنا استقلالهما عنها من جانب واحد، بعد هذه الحرب، تحديداً في 26 أغسطس 2008، يعتبران من "الحصة الروسية" في المشروع، تماماً كدول القوقاز المنضوية تحت لواء الاتحاد الروسي. كان الجورجيون يمنّون النفس بعبور أنابيب خط نابوكو من بحر قزوين، عبر أذربيجان، فالبحر الأسود، فأوروبا، لكن الأمر لم يحصل.

عدا ذلك، فإن السيطرة الروسية ـ التركية المشتركة على البحر الأسود، عملياً، سمحت بتفعيل خطوات "السيل التركي" الذي تتشارك به موسكو وأنقرة، مع شركة الطاقة الروسية "غازبروم"، وتحويله إلى جزءٍ أساسي من "طريق الحرير الموازي". بالتالي فإن طريق قناة السويس، مع تفريعاتها، قد لا تكون قادرة على منافسة الزحف الاقتصادي من الشرق، مع اعتماد السوق على الكلفة المنخفضة في المشاريع المستقبلية، وتركيز العمل على الوسط الآسيوي وشرقه كقوة اقتصادية صاعدة. ومن الوارد في هذا السياق، أن يكون الأميركيون، وبتدفقهم إلى إيران، بفعل إفرازات الاتفاق النووي (14 يوليو/تموز 2015)، جزءا أساسيا من الطريق الجديد، الذي تلحظ "مركزية" إيران فيه، كتكملة لأفكار وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، الداعي إلى التفاهم مع إيران "لفتح الأسواق الآسيوية".

وقد يكون من تداعيات المشروع، عدم السماح بقيام دولة أو دويلة كردية في إطار "كردستان الكبرى"، قد تطيح المشروع برمّته، كما أن الأمر سينعكس على الداخل الباكستاني والأفغاني في مرحلة لاحقة، بينما تُشكّل عمان طليعة الدول العربية الخليجية في المشروع. الأساس في "خط النقل الشمالي ـ الجنوبي" أو "طريق الحرير الموازي"، أنه سيُشرع الأبواب أمام مستقبل اقتصادي مختلف تماماً، لما ساد في القرون الماضية، ما سيؤدي إلى قيام منظومات سياسية ـ اجتماعية ـ اقتصادية متعددة، تجعل من التوجه نحو الشرق أمراً لا مفرّ منه للغرب.

دلالات
المساهمون