الثابت لدى الجزائريين أن أوروبا الفعلية (الاتحاد الأوروبي) تقيس الديمقراطية والحريات في بلادهم بمكعب غاز وبرميل نفط وصرّة مال ومساحة سوق لصرف المنتجات المختلفة ليس إلا. وأوروبا الأخرى (البرلمان الأوروبي) وباقي الهيئات مهمتها تصريف فائض الديمقراطية، في شكل بيانات وإشعال النقاشات والهويات في المجتمعات الهشة، التي ما زالت في مربع نقاش المبادئ الديمقراطية كالجزائر. ليس اكتشافاً جديداً أن الديمقراطية والحريات لم تكن أبداً اهتماماً أوروبياً بالنسبة للجزائر، كما بالنسبة لكثير من دول الجنوب. بالعكس تماماً، فإن الانشغال الأوروبي المركزي ظل قائماً ويقوم على منع تركيز نظام ديمقراطي يوفر للبلد مؤسسات قوية وشرعية، تقوم على تدبير وتسيير المقدرات المادية والبشرية بشفافية وبالمنهجية العلمية ومقايضة التكنولوجيا وتشجيع المعرفة والابتكار المحلي، وتجتمع مخرجاته عند اقتصاد قوي يحول الجزائر إلى بلد في مستوى ندي.
عند الخروج من دائرة هذا الاكتشاف، يمكن إدراك محددين رئيسيين بالنسبة للجزائر في علاقة بالتدخلات الأجنبية: الأول أن هناك حسما تاريخيا لدى مجموع المكون الجزائري، السياسي والمدني، ضد التدخل الأجنبي، واستقلالية القرار الوطني. وهذا الحسم لم يكن من ثمرات النظام أو بيداغوجيا التنشئة السياسية للجزائريين، بقدر ما هو لقاح ثوري يعود إلى مرحلة ثورة التحرير (1954-1962) والتي رفض قادتها في خمسينيات القرن الماضي حتى التدخل المصري في قرارات الثورة، ما دفعهم إلى نقل مقر الحكومة المؤقتة من القاهرة إلى تونس.
المحدد الثاني هو أن أوروبا، كما كل القوى الغربية، لم تكن مهتمة بالحريات في سنوات الجنون، ولا بالديمقراطية زمن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ولن تكون قضيتها في الزمن الراهن، عدا ما تفرضه استحقاقات الابتزاز. وينطبق الأمر نفسه على باقي الدول العربية، خصوصاً في زمن العقيد معمر القذافي في ليبيا، أو زين العابدين بن علي في تونس، حجم المصالح كان أكبر من ذلك في كل الأوقات، ولذلك كان من المهم طي هذا النقاش المحسوم مجتمعياً وسياسياً. وتجاوز الجزائريون من مكونات الحراك الشعبي خصوصاً سريعاً النقاش المرتبط بلائحة البرلمان الأوروبي التي تدين ممارسات السلطة الجزائرية وقرروا البقاء ضمن نقاش الموضوع المركزي.
ومن دون إغفال أن النظام الجزائري كان دائماً المتسبب الأول في جعل الوضع في البلاد محل تدويل ونقاش في الخارج، فإن ما يشغل الجزائريين، كموضوع مركزي الآن، هو عدم تضييع الحراك الشعبي كحركة وحدوية لبناء ديمقراطية محلية بالخصوصية الجزائرية، وبالاتكال على الرصيد التاريخي الجامع، والأدبيات المشتركة والناتج المحلي من الذكاء الجمعي والخام الداخلي من العقل السياسي المتزن.