قبل ساعات من انطلاق الاجتماعات الفنية والقانونية بين مصر وإثيوبيا والسودان، قبل جولة التفاوض الثالثة بشأن سد النهضة في واشنطن يومي 28 و29 يناير/كانون الثاني الماضي، نشرت "العربي الجديد" تصريحات لمصادر فنية في وزارة الري المصرية، أبدت فيها تخوفها "الشديد" مما وصفته بـ"التقارب الإثيوبي السوداني"، بسبب اتفاق الدولتين على العديد من النقاط التي تعتبر خلافية ومحل انتقاد بالنسبة لمصر، ما جعلها تؤكد أن الفريق الفني في مصر نبّه الفريق السياسي والدبلوماسي إلى أهمية الفصل بين الموقفين المصري والسوداني نهائياً، والتوقف عن الرهان على الخرطوم، سواء قُبلت بعض المقترحات المصرية أم لا، وذلك على خلفية ضمانها الاستفادة المطلقة من مشروع السد.
إلا أن القيادة المصرية للمفاوضات، في رئاسة الجمهورية والمخابرات العامة، بقيت متمسكة بالترويج لفكرة "استهداف منع الإضرار بمصالح مصر والسودان". وانعكس هذا في كل بيانات الرئاسة والخارجية حول القضية، انتهاء بمشروع البيان المقدّم من القاهرة لمجلس وزراء الخارجية العرب، أمس الأول، الذي كانت صياغته المصرية الأولى تتحدث عن "التضامن مع حقوق مصر والسودان"، الأمر الذي تحفظت واعترضت الخرطوم عليه، بحجة أنه سيؤدي إلى مواجهة عربية إثيوبية، وقد تكون له انعكاسات على موقفها؛ ما عبّر عن فشل المساعي السياسية والتقارب المعلن بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان وعدد من أعضاء المجلس العسكريين، إضافة إلى الاتفاقات السابقة على دعم السودان حقوق مصر وعدم الإضرار بها.
وتواصلت "العربي الجديد" مع المصادر الفنية نفسها بعد التطورات الأخيرة في الملف الأسبوع الماضي، في أعقاب مقاطعة إثيوبيا لجولة التفاوض الأخيرة في واشنطن، وتوقيع مصر منفردة على الاتفاق، الذي صاغته وزارة الخزانة الأميركية والبنك الدولي، لاستيضاح نقاط النزاع بين مصر من جهة وإثيوبيا والسودان من جهة أخرى، خصوصاً أن الخرطوم قد أعلنت سلفاً أنها موافقة على نحو 90 في المائة من محتويات الاتفاق. لكن مصادر دبلوماسية مصرية سبق وذكرت أن رفض توقيعها بالأحرف الأولى يعود لتشككها في التوقيع الإثيوبي، وبالتالي فهي ترغب في إتاحة الفرصة للعودة والتفاوض حول بعض النقاط التي قد يتحفّظ عليها الجانب الإثيوبي لاحقاً.
وقالت المصادر الفنية إن اجتماعات واشنطن كانت قد أكدت للمشاركين، بوضوح، عدم اكتراث الجانب السوداني لبعض المخاوف الحساسة والحيوية للمصريين، خصوصاً في ظل اتفاق التعاون الكهربائي بين سد النهضة وشبكة الكهرباء السودانية، ما يعني استفادة الخرطوم من الاتفاق الذي أُبرم بضرورة سرعة الملء الأول للخزان الرئيسي ابتداء من يوليو/تموز المقبل، بغية البدء في توليد الكهرباء تجريبياً في ربيع العام المقبل، وفعلياً في صيف ذلك العام.
وأضافت المصادر أن النقطة الخلافية الرئيسية حالياً بين إثيوبيا والصياغة الأميركية للاتفاق، تتمثل في اقتراح ضمان تمرير 37 مليار متر مكعب من المياه لمصر في أوقات الملء والجفاف، كرقم وسط بين ما تطالب به إثيوبيا، وهو 32 ملياراً، وما كانت تطالب به مصر وهو 40 مليار متر مكعب، على أن يُترك الرقم الخاص بأوقات عدم الملء والرخاء لآلية التنسيق بين الدول الثلاث. وهنا يأتي الشرط الذي يغضب الإثيوبيين؛ فمن وجهة نظرهم يتطلب تمرير 37 مليار متر مكعب في أوقات الجفاف، الصرف المباشر من بحيرة سد النهضة، وعدم تمكنها من الحفاظ على منسوبها عند 595 متراً، لتضمن بذلك التوليد المستديم وغير المنقطع من الكهرباء لمدة 7 سنوات على الأقل.
وهناك اتفاق بين السودان وإثيوبيا على ضرورة إبقاء منسوب المياه في بحيرة سد النهضة أعلى من 595 متراً فوق سطح البحر، لتستمر قدرته على إنتاج الكهرباء، وهو أمر تجادل مصر بأنه غير عادل إذا انخفض مقياس المياه في بحيرة ناصر عن 165 أو 170 متراً. وهنا مناط خلاف آخر بين مصر والدولتين، لأنهما لا ترغبان في الربط بين مؤشرات القياس في سد النهضة والسد العالي، بينما ترى الخزانة الأميركية أن الطلب المصري في هذا الصدد معقول. وأضافت المصادر الفنية أنه على الرغم من أن رقم 37 مليار متر مكعب يبدو كهزيمة للمساعي المصرية بالتراجع عن نصيبها السابق المحدد بكمية 49 مليار متر مكعب، ثم بتراجع آخر عن طلبها بوصول 40 مليار متر مكعب خلال المفاوضات الأخيرة، وكذلك قبولها طلب إثيوبيا بالملء المستديم لأول عامين قبل اتّباع جدول التنظيم وفق الآلية التي لم يتم الاتفاق عليها، إلا أنه وعلى الرغم من كل هذه التنازلات المصرية، فإن إثيوبيا والسودان لهما حسابات أخرى تماماً غير المصرية وحتى الأميركية.
فكلا البلدين يريدان احتساب الحصة النهائية لمصر مضافةً إليها "بواقي أو فوائض الفيضان"، الأمر الذي بالفعل ستستفيد منه مصر وفقاً لخطتها المقترحة بالقياس على منسوب فيضان النيل الأزرق. لكن البلدين يعتقدان، بناء على هذه الرؤية، أن أكثر من 80 مليار متر مكعب تصل إلى مصر حالياً، أي أكثر من الحصة المنصوص عليها في اتفاقية 1959 مع السودان بواقع 30 ملياراً. ويجادل الطرفان بأن ملء بحيرة سد النهضة سيخفض الحصة المصرية الفعلية إلى رقم يتراوح بين 52 و55 مليار متر مكعب، شاملة بواقي الفيضان، وبالتالي يعتبران أن المطالبات المصرية ليست عادلة.
ومن جهته، يرى الجانب السوداني في المفاوضات أن الصياغة الأميركية للاتفاق ركزت على نزاع مصر وإثيوبيا أكثر من تركيزها على ضرورة استفادة الخرطوم من الوضع الجديد، وتوثيق حصتها الجديدة من مياه النيل؛ فوفقاً للتوقعات السودانية، إن نصيب الخرطوم سيرتفع بعد إنشاء سد النهضة إلى ما يتراوح بين 18 و20 مليار متر مكعب، بدلاً من 8 مليارات كان منصوصاً عليها في اتفاقية 1959. وبحسب المصادر الفنية المصرية، فإن السودان سيكون مستفيداً في حال موافقة إثيوبيا على الصيغة الأميركية المقترحة لنصيب مصر، والتي سبق واقترحها السودان بالفعل، لكنه في الوقت نفسه لن يستفيد من تأخر بدء ملء السد، الذي سيوفر له فرصة تاريخية لتحديث نظام الزراعة.
وأوضحت المصادر أن السودانيين يرغبون أيضاً في أن يتم قياس مؤشرات الجفاف خلال تفعيل آلية التنسيق على أساس حصيلة المياه المتدفقة في الشهور التالية للفيضان مباشرة، وهو أمر لا يرضي الجانب المصري، الذي يرغب في تحديد مؤشرات الجفاف بصورة مستديمة طوال شهور الشتاء والربيع. لكن أديس أبابا والخرطوم تعتبران أن المقترح المصري ليس عملياً، ويفترض وجود لجنة دائمة للقياس، وهو أمر تريان أنه يخرج عن نطاق الاتفاق على الإدارة الإثيوبية الخالصة للسد.
وإلى جانب تلك الأسباب الفنية لعدم التوافق بين مصر والسودان، فإن الأخير يتفق مع إثيوبيا على ضرورة وضع الصياغة النهائية بمعرفة الدول الثلاث، وعدم تفعيل الوساطة الملزمة بالاستعانة بأميركا، حسب المادة 10 من اتفاق المبادئ. وسبق أن قالت مصادر دبلوماسية مصرية إن القاهرة استفسرت من الخرطوم عن سبب التصريحات التي أدلى بها السبت الماضي السفير السوداني في أديس أبابا مختار بلال عبد السلام، ونقلتها وكالة الأنباء الإثيوبية، وذكر فيها أن الموقف السوداني لا يزال مؤيداً لإثيوبيا ولم ينقلب ليصبح بجانب مصر، والذي تضمن أيضاً بعض الانتقادات للإعلام المصري. ووصفت القاهرة تلك التصريحات بأنها "مضرة وغير مسؤولة".
وكان نائب رئيس الوزراء ووزير المياه الإثيوبيان قد ذكرا، في مؤتمر صحافي الخميس الماضي، أن "مشروع سد النهضة خط أحمر بالنسبة للشعب الإثيوبي". وأكدا استمرار وتيرة العمل فيه بجدية، وأن إنشاءاته تم إنجازها بنسبة 70 في المائة وأن دولتهما تتمسك ببدء ملء الخزان في يوليو/تموز المقبل بكمية 4.9 مليارات متر مكعب، الأمر الذي كانت قد اعترضت عليه القاهرة وواشنطن سلفاً، إلا بعد الاتفاق النهائي على قواعد الملء والتشغيل.