معاهد البحث الأميركية وشركات المصالح الكبرى: الأموال مقابل "الحقائق"

09 اغسطس 2016
الأموال الممنوحة لمعاهد البحث قوبلت بضمانات لتقديم "فوائد" (Getty)
+ الخط -
في عام 2010، قدّمت شركة "لينار"، وهي إحدى أكبر شركات الإنشاءات الخاصة في الولايات المتّحدة، مشروعاً لإعادة إحياء إحدى الضواحي القاحلة في مدينة سان فرنسيسكو الأميركية. هذا المشروع، الذي يُعدّ أكبر مشروع إعادة تأهيل في المدينة منذ الهزّة الأرضية التي ضربتها عام 1906، وجد أمامه صوتاً موثوقاً ليكفله أمام الرأي العام، وأمام الجهات الرسميّة على حدّ سواء، وهو معهد "بروكنغز" للأبحاث.

مشروع سان فرانسيسكو، الذي وصفه معهد "بروكنغز" بأنّه "واحد من أكبر ثلاثة مشاريع استثمارات تحويليّة في الولايات المتّحدة"، كان قد أثار جدلاً واسعاً منذ تدشينه، إذ طاولته انتقادات تتعلّق بالمخلّفات السامّة التي قد تتركها سفن البحريّة السابقة وراءها"، لا سيّما وأنّه كان يتضمّن مخطّطاً لبناء حوض للسفن على مراسي المدينة.

فوائد وتبرعات


إحدى الشكاوى المطروحة على المشروع، والتي رفعها سكّان المنطقة من خلال وكالة حماية البيئة، تتعلق بدور مشبوه لوزارة الصحة في هذه القضيّة، إذ اتُهمت "بالتآمر مع شركة لينار لإخفاء تهديدات الغبار المحمّل بالإسبست". وفي حين كان الأمر مثارا في أوساط الرأي العام، كانت شركة لينار تبحث عن مستثمرين جدد لتحريك مشروعها، وبدأ تشكّل تحالفها مع بروكنغز.



 "بروكنغز"، الذي يُفترض أن يكون مركزاً بحثيّاً مستقلّاً ، تصرّف وكأنّه يعقد صفقة من نوعٍ ما. وظّف جزءاً من تلك الأموال "الخيريّة" للترويج للمشروع في مؤسسات الإعلام الوطنيّة، كما فَتح الباب أمام تعاونٍ وثيق مع شركة "لينار"، حتى إنّه عيّن أحد مسؤولي الشركة كواحدٍ من "كبار الزملاء" في المعهد ذائع الصيت.


هذه العلاقة لم تكن استثنائية؛ فثمّة آلاف الصفحات لمراسلات سريّة بين بروكنغز و"جهات مانحة" عملاقة، مثل بنك "جي بي مورغان" متعدِّد الجنسيّات، وبنك "كي كي آر"، أكبر بنك في الولايات المتّحدة، وشركة مايكروسوفت العالميّة.


تلك المراسلات، التي ظلّت سرّية إلى أمدٍ بعيد، كانت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركيّة قد حصلت على نسخ منها، وما ورد فيها لا يكشف شبكة "التبرّعات" الماليّة المتشعّبة لـ"بروكنغز" فحسب؛ بل يظهر بجلاءٍ أنّ ذلك الدّعم قوبل بضمانات تقديم "فوائد" في المقابل، بما يشمل إقامة فعاليّات تضمّ المدراء التنفيذيّين لتلك الشركات مع المسؤولين الحكوميّين.




وتكشف الوثائق ذاتها أنّ مثل هذا "التعاون" قائمٌ أيضاً لدى العديد من معاهد الأبحاث، ولا يشمل "صفقات" داخليّة فحسب، مثل اتّفاقات التطوير العقاري، وإدارة الطرق السريعة؛ بل يتجاوز ذلك ليصل إلى قضايا أبعد من ذلك، مثل صفقات تصدير الأسلحة، واتّفاقات التجارة العالمية. هكذا، باتت بعض معاهد الأبحاث الوطنيّة تتحوّل، شيئاً فشيئاً، إلى محرّك لنفوذ الشركات، ولحملات ترويج علاماتها التجارية.




أبحاث ممولة

خلال السنوات الأخيرة، شهدت واشنطن انتشاراً واسعاً للمعاهد البحثيّة، لا سيّما المعاهد الصغيرة التي تربطها مصالح ضيّقة مع قطاعات محدّدة. في الوقت نفسه؛ حقّقت المعاهد الكبرى في هذا المجال نموّاً واسعاً هي الأخرى، فالميزانيّة السنويّة لـ"بروكنغز"، على سبيل المثال، تضاعفت إلى 100 مليون دولار خلال العقد الماضي. وهي الآن تنفق ما لا يقلّ عن 80 مليون دولار على بناء مقرّات جديدة في واشنطن، في مكان غير بعيد عن برج مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الجديد، والذي كلّف 100 مليون دولار.


إلّا أنّ المدراء التنفيذيين لهذه "المعاهد البحثيّة" يرفضون اتّهامهم بأنّهم أدوات لتحقيق نفوذ الشركات الكبرى، ويقولون إنّهم، ببساطة، يعملون كفريق واحد مع الجهات المانحة التي يتشاركون معها الأهداف، كمسألة تطوير المدن مثلاً، وعطفاً على ذلك، يقول نائب الرئيس التنفيذي لبروكنغز، مارتن إنديك، "نحن لم نتجاوز قِيمنا الجوهريّة: قيمِ الاستقلايّة، والجودة، وكذلك التأثير".


ورغم أنّ مفردة "التأثير"، التي يتحدّث عنها إيندك، تبقى مبهمة وغير محدّدة الدّلالة، إلّا أنّ ما توفّر لدى "نيويورك تايمز" من وثائق يضع علامات استفهام كبيرة حول قيمتي "الاستقلاليّة والجودة"، فالملاحظة الأوّليّة، بعد مراجعة مراسلات معاهد الأبحاث، هي أنّ ثمّة تقارير بحثيّة تجري مراجعة استنتاجاتها المحتملة بشكل مسبق مع الجهات المانحة.


كذلك، قد يتمّ أحياناً مشاركة مسودات الدراسات البحثيّة مع المؤسّسات المانحة، والتي يسهم رأيها، بالطبع، في صدور الدراسة بشكلها النهائي المطلوب سلفاً. بهذه الطريقة، تستغلّ تلك الشركات المعرفة المنتَجة، من مؤسّسات توصف بأنّها مستقلّة وغير مسيّسة، في سبيل تحقيق ضغط أوسع على الحكومات وصنّاع القرار، ويصبح بوسعها، مستغلّةً "المعرفة الموضوعيَّة" المنتَجة أن تخرج من خانة التصرّف كجماعة ضغط تسوقها مصالحها الذاتية، وأن تجد تبريراً "علميّاً" لمطالبها التي تمثّل "مصلحة جامعة".


غير أنّ الأمور قد تمضي بطريقة عكسيّة أحياناً، وهذا ما هو حاصلٌ، على سبيل المثال، في القضيّة التي يعمل عليها هذه الأيّام بعض المدّعين العامين في الولايات المتّحدة، إذ يحقّقون في ما إذا كانت شركة "أكسون موبيل" النفطية قد عملت مع معاهد بحثيّة محدّدة خلال العقود الأخيرة، طالبةً منها التستّر على حقيقة أنّ الوقود الحفريّ يشكّل خطراً على المناخ العالمي، وبعض مساعي تكذيب هذه الحقيقة، بالنسبة الشركة النفطيّة العملاقة، يتمّ من خلال تمويل تقارير تشكّك فيما خلص إليه العلم.

لسنا جماعة ضغط

كبرى الشركات الصناعيّة، ذات المصالح الممتدّة إلى ما وراء البحار، باتت تدرك على شكل واسع النطاق الدور المهم الذي من الممكن أن تؤدّيه المعاهد البحثية لخدمة أجنداتها، إلى أن أصبحت خيارها الأوّل حالما تواجهها أزمة اقتصادية أو سياسيّة، وهذا، تماماً، ما فكّرت فيه شركة "جينرال أتوميكس"، المصنّعة لطائرات التحكم عن بُعد، حينما واجهت مشكلةً من هذا القبيل.


شركة الصناعات الجويّة تلك، ومقرّها كاليفورنيا، وجدت نفسها أمام مرحلة فارقة لدى استلام إدارة أوباما الجديدة الحكمَ في أميركا؛ فآفاق مبيعاتها أخذت تتضاءل كلّما خفّت حدّة الحرب في العراق وأفغانستان. الشركة أرادت من إدارة أوباما تغيير سياستها، والسماح لها بالتصدير لدول أخرى، وقد بات هذا الاقتراح، في وقت لاحق، مربحاً للغاية.


في تلك الفترة تحديداً، اتّجهت "جينرال أتوميكس" إلى "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" طالبةً المساعدة، وقدّمت لها الأموال التي وظّف المعهد البحثي جزءاً منها لإجراء دراسة حول "سياسة طائرات التحكم عن بُعد"، بما يشمل التركيز على أهمّية صادراتها.


وبحسب ما تظهر الوثائق ومراسلات الإيميل التي اطّلعت عليها "نيويورك تايمز"؛ فقد عقد مركز الدراسات الاستراتيجيّة سلسلة لقاءات سرّية مع ممثّلين عن "جينرال أتوميكس"، ودعوا إليها شخصيّات رسميّة من البحريّة الأميركية، ومن القوّات الجويّة، ومشاة البحرية، وخفر السواحل، فضلاً عن مسؤولين في وزارة الخارجيّة، ومكتب وزير الدفاع.


هذه اللقاءات، كما يقول الباحث الرئيسي في المعهد، سامويل برانين ستكون "فريدةً من نوعها، وغير تقليديّة كسائر اللقاءات"، إذ "ستضمّ مجموعة أوسع من أصحاب المصالح عمّا هو معتاد". بهذه الرسالة، كان برانين يحثّ أحد مسؤولي وزارة الخارجيّة، وهو آرون جوست، من أجل حضور الاجتماعات، وإقرار صادرات الطائرات من دون طيّار.


الأمر لم يقف عند هذا الحدّ، بل إنّ برانين، ذاتَه، أخذ يكثّف لقاءاته مع مسؤولين من وزارة الدفاع، وأعضاءٍ من مجلس الشيوخ، بهدف دفع توصيات التصدير قُدماً، والتي تضمّنت، أيضاً، مقترحاً بتأسيس مكتب للبنتاغون مهمّته التركيز أكثر على فكرة اكتساب ونشر طائرات التحكم عن بعد، وأتبعها بعقد مؤتمر في مقرّ المركز البحثيّ، ضمّ كبار المسؤولين في الجيش، بهدف التأكيد على الحاجة إلى تخفيف قيود التصدير.


لكنّ مركز الدراسات الإسرائيليّة، برغم كلّ هذا الحقائق، يظلّ مصرّاً على القول: "نحن لسنا جماعة ضغط"، وهذا بالتحديد ما ردّ به الرئيس التنفيذي للمركز، جون هامر، لدى سؤاله عن هذا الأمر، مضيفاً، بنبرة واثقة، أنّ "المركز لن يمثّل أيّ جهة مانحة أمام أي وزارة حكوميّة، بما يشمل المشرّعين أو ممثّلي السلطة التنفيذية".


لكن، من بين كلّ الأمور الأخرى التي تظلّ مبهمة، تبقى ثمّة نتيجة واحدةٌ مؤكّدةٌ إزاء ذلك؛ وهي أنّ شركة "جينيرال أتوميكس"، بعد كلّ هذا السجال، خرجت رابحةً في النهاية.

(إعداد وترجمة: مالك سمارة)