"نداء تونس"... قصة حزب يعطل دولة

31 يوليو 2018
يحاول السبسي إقناع معارضي نجله بجدوى إبعاد الشاهد(فرانس برس)
+ الخط -

في أقل من أربع وعشرين ساعة، قرر حزب نداء تونس الحاكم أن يحجب الثقة عن وزير الداخلية الجديد، هشام الفوراتي، ثم قرر بعد ذلك منحه إياها. صورة تعكس حالة التذبذب والانقسام التي يعيشها هذا الحزب، وضياع بوصلته السياسية، وسط تبادل للتهم بين أعضائه وقياداته، ووجود فريق يساند القصر وآخر يدعم الحكومة، بما فتح باب الصراع واسعاً بينما البلاد تغرق في الديون ونقص الماء والدواء وأزمات التعليم والصحة وهروب الكفاءات إلى الخارج.   

وتلخّص رسالة توجّه بها قيادي سابق في حزب "نداء تونس" لكل من رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ومدير الحزب حافظ قائد السبسي، مدى الأزمة التي تعيشها تونس بسبب هذا التداخل بين الحزب والدولة. القيادي المذكور هو بوجمعة الرميلي وهو من الشخصيات السياسية اليسارية المرموقة في تونس. كان قد انضم إلى "نداء تونس" قبل أن يستقيل منه مثل مئات آخرين. وأمام حدّة الأزمة التي بلغتها البلاد، دعا الرميلي الاثنين، كلاً من الشاهد والسبسي الابن إلى تقديم استقالتهما، بسبب عدم نجاح الشاهد في إيقاف النزيف المالي والاقتصادي الذي وعد به، وانتهاء حكومة الوحدة الوطنية بعد خروج نقابة العمال، ولأن الفشل في حزب "نداء تونس"، "لا يستحقّ الكثير من الاستدلال، نظراً للانقسامات المتعددة والمتنوعة في الهياكل وفي الكتلة، ونظراً للخسارات الانتخابية المتتالية والثقيلة"، وفق تعبيره.

هذا الرجاء للرميلي، الذي نشره على صفحته الرسمية على موقع "فيسبوك"، يلخّص عجز المؤسسات الدستورية والسياسية في إيجاد مخرج عادي لأزمة سياسية عادية تحدث في أي بلد آخر، حيث يُطلب من رئيس الحكومة أن يغادر فيغادر طوعاً، أو كرهاً عن طريق الآليات البرلمانية. أمّا ما تعيشه تونس هذه الأيام، فحالة سياسية مستعصية تحمل في الوقت ذاته عوامل أزمة دستورية وسياسية واقتصادية وشخصية وعائلية، وقف الجميع أمامها حيارى من دون إمكانية إيجاد مخرج ممكن، ولكنها في النهاية تربك الدولة وتعطّل مسارها ومصالح الشعب اليومية.

وحتى يتابع القارئ العربي غير التونسي على وجه الخصوص، حجم هذه الأزمة التي أحدثها حزب "نداء تونس" في الدولة، وتهديده للمشهد السياسي وللمسار الديمقراطي وللوضع السلمي في البلاد، ينبغي التنويه إلى أنّ الشاهد هو ابن "نداء تونس" وليس ابن حزب آخر. كان قد هيّأ بنفسه طريق وصول حافظ قائد السبسي إلى إدارة الحزب، إثر انقسام أوّل في صفوفه، فقاد حافظ بدوره الشاهد إلى سدّة رئاسة الحكومة. كذلك، هناك علاقة قرابة عائلية بينهما من بعيد، ولكنهما أصبحا ألدّ الأعداء وخاضا معركة كسر عظم وصلت ارتداداتها إلى مؤسسات الدولة كافة، الرئاسة والحكومة والبرلمان والوزارات والأحزاب وكل من له علاقة بالشأن العام في تونس.

و"نداء تونس"، الحزب الذي نافس "النهضة" في انتخابات 2014، ليغيّر الأوضاع وقتها، بحسب ما قال، هو حزب تأسّس على خليط عجيب؛ دستوريون (نسبة لحزب الدستور الذي أسسه الراحل الحبيب بورقيبة) وتجمعيّون (نسبة لحزب التجمّع المنحلّ) ويساريون ونقابيون ومستقلون وكوادر في الدولة، اجتمعوا استجابة للرئيس المؤسس وقتها، الباجي قائد السبسي، من أجل إنقاذ البلاد من حكم الترويكا. والمحصّلة أنّ "نداء تونس" انقسم إلى أحزاب عدة، "حركة مشروع تونس"، "تونس أولاً"، "حركة المستقبل"، "بني وطني" و"الكتلة الوطنية". أمّا ما بقي منه، فمنقسم أيضاً بين مدافعين عن حافظ قائد السبسي ومعارضين له، بِما يعني أنّ الحزب الذي كان يشكّل الأغلبية، شعبياً وبرلمانياً، تشظّى إلى كانتونات عدة وخسر أغلبيته البرلمانية، ومن بعدها انتخابات جزئية في ألمانيا، ثمّ انتخابات بلدية هي الأولى منذ الثورة.

وعلى سبيل التوضيح، تجدر الإشارة إلى أنّ المرشّح الرئاسي في 2014، الباجي قائد السبسي، أكّد في سبتمبر/أيلول من ذلك العام، أنّ تصاعد التهديدات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية دفعته لخوص صراع الانتخابات الرئاسية، مؤكداً أنّ من أسباب ترشّحه أيضاً، ما وصفه بـ"تراجع هيبة الدولة وتدهور عمل المنظومة الإدارية"، منتقداً أداء حكومة "الائتلاف الثلاثي" التي قادتها حركة "النهضة" بعد انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر/تشرين الأول 2011.

وبعدما انتخب رئيساً للجمهورية، قال السبسي في كلمة ألقاها عقب أدائه اليمين الدستورية في مجلس النواب، إنّه سيحرص من منصبه على "ضمان الوحدة الوطنية وتماسك التونسيين وتوافق مختلف مكونات المجتمع المدني، لأنّ تونس تحتاج لكل أبنائها"، وتعهّد بالعمل على "معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق أهداف الثورة، وتحسين ظروف العيش والتشغيل وتحسين قطاع الصحة والنهوض بالتنمية الاقتصادية". كذلك، تعهّد بـ"إعادة هيبة الدولة في نطاق العدل والنظام اللامركزي والحريات الأساسية والشفافية في اتخاذ القرارات والتسميات، والتواصل مع المواطنين وتأمين حاجاتهم".

واليوم، ووفقاً لبيانات وزارة المالية التونسية، فإنّ حجم القروض المتوقّعة خلال العام المالي الحالي 2018 بلغ 9.536 مليارات دينار تونسي (3.61 مليارات دولار)، منها 7.336 مليارات دينار قروضاً خارجية (الدولار الأميركي يعادل 2.6 دينار تونسي). كما وصلت قيمة خدمة الدين في موازنة العام المالي الحالي إلى 7.972 مليارات دينار منها 5.185 مليارات دينار لسداد أصل الدين، و2.787 مليار دينار لسداد الفوائد. ومع نهاية العام المالي الحالي، يتوقّع أن تصل قيمة إجمالي ديون تونس إلى 76.165 مليار دينار (28.85 مليار دولار)، تمثّل 71.45 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، منها 22.523 مليار دينار تونسي ديون داخلية، و53.840 مليار دينار ديون خارجية، بنسبة 70.7 في المائة من إجمالي الديون.

كذلك، وصل معدّل التضخّم خلال شهر يونيو/حزيران الماضي إلى ما نسبته 7.8 في المائة، وهو الأعلى منذ عام 1990. وبلغت الموجودات الصافية من العملة الأجنبية، حسبما ورد في الموقع الرسمي للبنك المركزي حتى تاريخ 23 يوليو/تموز الحالي، 11036 مليون دينار، وهي مخزونات كافية لتغطية 72 يوماً من التوريد فقط.

واستقبلت تونس خلال الأسبوع الماضي عدداً غير مسبوق من المسؤولين الماليين والسياسيين الدوليين، بما دقّ ناقوس الخطر حول الوضع المالي واقتراب الدولة من الإفلاس، ولجوئها الهيستيري نحو الاقتراض، مع انتقادات واسعة لتصاعد تدخل السفراء الأجانب والمؤسسات الدولية في تحديد القرارات التونسية، ودعم طرف على حساب آخر في هذا الصراع المحموم الذي تعيشه البلاد.

أمّا في ما يتعلّق بهيبة الدولة، فقد تابع التونسيون كيف خرج رئيس الحكومة عن كل اللياقات وواجبات التحفّظ، وأرسل وابلاً من الاتهامات نحو مدير حزبه، بالاسم واللقب، مقحماً عموم التونسيين في صراع سياسي حزبي، هو في الأصل صراع مواقع يعكس حرب أجنحة الحكم في سعيها للسيطرة على البلاد. وهو ما دفع أحد المعلقين إلى القول "أنقذوا البلاد أولاً، ثمّ تصارعوا عليها". أمّا الرئيس السبسي، فحمّل الجميع مسؤولياتهم، وكأن لا مسؤولية له في ما يحدث، وحذّر من الأسوأ إذا لم تنتهِ الأزمة قريباً باستقالة الشاهد أو بعدم تدخّل البرلمان.

ولا تعود كل الأخطاء إلى آل السبسي وحدهم، برغم أنّ الأب انتصر لابنه في نهاية الأمر، تماما كما فعل في صراعه مع الحبيب الصيد، رئيس الحكومة السابق، عندما أقاله بالطريقة نفسها وربّما للأسباب نفسها. ولكنّ الشاهد أيضاً ناكث للعهود، تنكّر للرجل الذي منحه مستقبلاً سياسياً غير متوقّع، وجاء به من مسار حزبي لا أهمية له ودفع به لإدارة بلاد ما بعد الثورة. ولكن لأنّ تعيينه كان بسبب حسابات ضيقة، فقد سقط المشروع بسبب الحسابات الضيقة والخاطئة نفسها. والمشكلة أنّ التونسيين جميعاً يدفعون ثمن هذه الحسابات، بسبب مشروع سياسي لرئيس حكومة شاب كان يمكن أن يدير هذا المستقبل بشكل أفضل بكثير، ولا يحوّل الوحدة الوطنية التي جاءت به، إلى قائمة أعداء لا يمكن بأي حال أن ينتصر عليها. فالقائمة الطويلة التي تضم اتحاد العمال ورجال الأعمال وحزبه الشخصي وأحزاب المعارضة التي تنتظره في الطريق، وقائمة أعداء طويلة أخرى من خلف الستار، ورئيس دولة يشهد الجميع له بالحنكة والتجربة السياسية، ستنتهي به حتماً إلى الخروج من الحكومة، برغم الدعم الظرفي لحركة "النهضة" التي لا يمكن أن تجازف بكل شيء من أجله.

الرئيس السبسي خرج عن صمته بعدما أطال عمر الأزمة، وبدأ في الحشد لإسقاط رئيس الحكومة العنيد، ودعا نواب "نداء تونس" إلى الاجتماع به في القصر، لإقناع الرافضين والمعارضين لنجله بجدوى إبعاد الشاهد، في حين يحشد "اتحاد الشغل" أيضاً لتجميع القوى السياسية من أجل التسريع بعرض الأمر نفسه على البرلمان وعدم تجديد الثقة في الحكومة. المعارضة بدأت كذلك، تقتنع بأنّه لا يمكنها الوقوف بعيداً لفترة أطول، بسبب تداعيات الأزمة على البلاد.

أمّا حزبياً، فيحاول السبسي البحث عن صيغ جديدة تعيد المبعدين والمستقيلين، ولكنه يبحث أيضاً عن طريقة لإقناع هؤلاء، الذين خرجوا كلهم بعد خلافات مع نجله، بتجديد الحزب من دون إهانة هذا الأخير أو إبعاده بشكل غير لائق، قد يتسبّب في أزمة عائلية.

خلاصة الموضوع، أنّ هذه المعركة الداخلية العائلية التي كان يمكن أن تدار بطريقة سرية، وهذه الأحلام والطموحات الشخصية للشاهد ولنجل السبسي وللمحيطين بهما والطامعين من ورائهما، أربكت الدولة وتهدد حاضرها بشكل مخيف، بعد أن تحوّلت كل البلاد إلى أرض معركة مفتوحة كل الأسلحة متاحة فيها، بينما يقوم الباقون بحسابات ربح وخسارة متناسين أنّ الوضع في تونس يجعل الجميع، إمّا خاسراً أو رابحاً.

المساهمون