تقف "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، على مفترق طرق سياسي، مع اقتراب انتهاء مهمتها الرئيسية، وهي القضاء على تنظيم "داعش" في منطقة شرقي نهر الفرات، وفي ظل تحذيرات أميركية لها من محاولات التقارب مع النظام السوري، الذي وجه تحذيرات متتالية لهذه القوات في محاولة للضغط عليها للرضوخ لشروطه في تسليم "سورية المفيدة" له.
ومن الواضح أن "قوات سورية الديمقراطية"، التي تشكل "وحدات حماية الشعب" الكردية عمودها الفقري وتتولى مهمة التوجيه فيها، بدأت تستعد للمرحلة المقبلة، آخذة بالاعتبار جملة من المعطيات السياسية في مشهد سوري شديد التعقيد يتجه إلى مزيد من التأزيم، ما يضعها أمام خيارات صعبة، بينها الموافقة على نشر قوات دولية في مناطقها لحمايتها من أي عملية عسكرية تركية. وتحاول هذه القوات إطالة عمر مهمتها، من خلال التذكير بالخطر الدائم لتنظيم "داعش" والتحذير من محاولات تجميع صفوفه مرة أخرى. وفي هذا الصدد، أعلن "المجلس العسكري لقوات سورية الديمقراطية"، أول من أمس، أنه ناقش خلال اجتماع مجموعة من القضايا، بينها "مرحلة ما بعد انسحاب قوات الولايات المتحدة الأميركية وأيضاً ادعاءات الدولة التركية والمنطقة الآمنة ومستقبل العلاقات مع الحكومة السورية، ومواضيع أخرى ذات أهمية عسكرية وأمنية حالياً ومستقبلاً". وأوضح المجلس، في بيان، أن المعركة مع "داعش" ستنتهي "بشكل نهائي بعد تحرير الأسرى والمدنيين المحتجزين لدى التنظيم"، لافتاً إلى أنه "حدد خلال الاجتماع الاستراتيجية العسكرية الجديدة لقوات سورية الديمقراطية للمرحلة المقبلة، على صعيدي القضاء على التنظيم العسكري السري المتمثل في الخلايا النائمة عبر حملات عسكرية وأمنية دقيقة، بمساندة قوات التحالف الدولي، وتجفيف الأرضية الاجتماعية والفكرية والاقتصادية التي يعتمد عليها داعش من أجل استمرارية وجوده". وذكر "المجلس العسكري"، في بيانه، أنه "ناقش مستقبل العلاقات مع الحكومة السورية، وأكد على محاولة إيجاد حل عن طريق الحوار ضمن إطار سورية موحدة، مع الأخذ بالاعتبار خصوصية قوات سورية الديمقراطية والاعتراف الدستوري بالإدارة الذاتية المعلنة والفعلية في شمال شرق البلاد".
وتخوض هذه القوات معركة أخيرة مع تنظيم "داعش" في منطقة شرقي الفرات، وهي باتت قاب قوسين أو أدنى من إنهائها، مع محاصرة فلول التنظيم في بقعة جغرافية ضيقة في ريف دير الزور الشرقي. ويرفض أكثر من 300 من مسلحي تنظيم "داعش" يتحصنون في منطقة صغيرة في بلدة الباغوز الاستسلام، ويحاولون التفاوض للخروج إلى إدلب. وقال مصدر على صلة بالمفاوضات: "يطلب عناصر داعش المحاصرون فتح ممر لهم إلى إدلب، على أن يأخذوا المدنيين المتبقين معهم كدروع بشرية، لكن الأمر غير قابل للنقاش بالنسبة إلى قوات سورية الديمقراطية". وأكد مصدر قيادي في "قسد" عدم وجود أي مفاوضات مباشرة مع التنظيم، وقال لوكالة "فرانس برس": "لا يمتلك داعش خيارات ليتفاوض عليها، لأنه محاصر في منطقة جغرافية ضيقة جداً وليس أمامه سوى الاستسلام"، لافتاً إلى "محاولات" لإنقاذ المدنيين وعدد من المقاتلين التابعين لقواته "الرهائن" لدى التنظيم.
وحاولت "قسد" أخيراً فتح باب حوار وتفاوض مع النظام السوري لحسم مصير المنطقة التي تسيطر عليها، والتي تمثل نحو ثلث مساحة البلاد، وتعد "سورية المفيدة" بنظر كثيرين، كونها تضم أهم ثروات البلاد الاقتصادية. لكن النظام أغلق أي باب حوار يمكن أن يفضي إلى حل، إذ يصر على تسلّم المنطقة من هذه القوات من دون شروط، ما خلا "حقوقاً ثقافية" للأكراد في مناطقهم، وهو ما وقف حجر عثرة أمام استمرار الحوار تحت إشراف روسي. وفي أحدث تحذير من النظام إلى "قسد"، فقد زعم رئيسه، بشار الأسد، الأحد الماضي، أن الجانب الأميركي لن يحمي ما سمّاها "المجموعات التي تراهن على واشنطن"، مضيفاً "لن يضعكم لا في قلبه ولا في حضنه، بل سيضعكم في جيبه لكي تكونوا أداة للمقايضة مع الدولارات التي يحملها، وهو بدأ بالمقايضة". وحمل كلام الأسد تهديداً للمقاتلين الأكراد لدفعهم إلى حضن النظام السوري وفق شروطه.
وطالبت "الإدارة الذاتية الكردية"، أمس الإثنين، الدول الأوروبية بعدم التخلي عنها. وقال القيادي في "الإدارة الذاتية" ألدار خليل، في مقابلة مع "فرانس برس" في باريس: "تلك الدول لديها التزامات سياسية وأخلاقية، وإذا لم يفوا بها فهم يتخلون عنا". ورأى أنه يمكن لفرنسا أن تقترح على مجلس الأمن "نشر قوة دولية بيننا وبين الأتراك تكون جزءاً منها، أو يمكنها حماية أجوائنا". وأشار إلى أن هذه القوة الدولية يمكن أن تكون أشبه بقوات "اليونيفيل" التابعة للأمم المتحدة المنتشرة في جنوب لبنان. لكن الأوروبيين تغاضوا بالفعل عن الاقتراح الأميركي بإنشاء "قوة مراقبين" بدل الأميركيين في سورية. وقال مصدر حكومي فرنسي: "واشنطن تحاول العثور على حلول للخروج، ليست في الواقع حلولاً"، مشيراً إلى أنها تقول "نحن راحلون وأنتم باقون". وحذر خليل من أنه إذا لم يساعد الغرب الأكراد، فإن "وحدات حماية الشعب" الكردية ستتجه إلى النظام السوري. وقال "إذا لم تفعل الدول الأوروبية والولايات المتحدة شيئاً، سنكون مجبرين على التفاهم مع النظام (السوري) ليرسل قوات عسكرية إلى الحدود لحمايتها".
كما وجدت "قوات سورية الديمقراطية" نفسها عند مفترق طرق سياسي مع ارتفاع نبرة التهديد الأميركي لها جراء التقارب مع النظام السوري وروسيا، والذي تجلى في عدة جولات تفاوض في دمشق وفي قاعدة حميميم الروسية. وتعد واشنطن أكبر داعمي هذه القوات التي تحولت إلى قوة برية للتحالف الدولي ضد الإرهاب في سورية حارب به تنظيم "داعش" منذ أواخر العام 2015. وهدد قائد قوات التحالف ضد "داعش"، بقيادة أميركا، بول لاكاميرا، بأن الولايات المتحدة ستضطر لوقف مساعداتها العسكرية إلى "قوات سورية الديمقراطية" في حال تحالف مقاتليها مع الأسد أو روسيا. وقال "سنستمر في تدريبهم وتسليحهم إذا بقوا شركاء لنا"، مشيداً بانتصاراتهم الصعبة ضد التنظيم. لكن عندما سئل عما إذا كان الدعم سيستمر إذا تحالفوا مع الأسد، قال لاكاميرا: "لا"، مضيفاً "حينها ستنقطع هذه العلاقة، لأنهم سيعودون إلى النظام الذي لا نرتبط معه بعلاقة (أو) الروس. إذا حدث ذلك، فلن نبقى شركاء معهم بعدها".
وكان المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية جيمس جيفري قد أكد، الأحد الماضي، أن بلاده "لن تسمح بعودة قوات الأسد إلى الأماكن التي سننسحب منها"، في إشارة واضحة إلى نيّة واشنطن دعم توجه "قوات سورية الديمقراطية" في ترسيخ معالم كيان جديد في منطقة شرقي نهر الفرات تأمل أن يكون شبيهاً بإقليم كردستان العراق، وهو ما ترفضه أنقرة بالمطلق. وتعول "قسد" على استمرار الدعم الغربي لها حتى التوصل إلى حل سياسي شامل للقضية السورية يرضي جميع الأطراف. وأكدت مصادر محلية في محافظة الرقة السورية، لـ"العربي الجديد"، أن "قوات سورية الديمقراطية" تعمل على وجود طويل الأمد من خلال إجراءات عسكرية وثقافية واقتصادية على الأرض. من جانبه، قال عضو المكتب السياسي في "مجلس سورية الديمقراطية"، الذي يعد الذراع السياسية لـ"قسد"، بسام إسحق، لـ"العربي الجديد": "نحن قدمنا للنظام، عبر الوسيط الروسي، قائمة مطالب، والجانب الأميركي مطلع عليها، لكن النظام لم يرد على مطالب سورية الديمقراطية". وأشار إلى أن "الأميركيين ما زالوا ملتزمين بدعم قوات سورية الديمقراطية وبالوصول إلى حل سياسي شامل للقضية السورية"، مضيفاً "تصريح جيفري يؤكد أن واشنطن ملتزمة بحماية حلفائها الذين حرروا أرضهم من الإرهاب الذي كان قد احتل مساحات شاسعة من سورية".