لم تنقطع منذ أسابيع مشاهد تجمّع العشرات من الشبان للتظاهر أو التجمهر أمام المجمّعات الحكومية في مدن جنوب العراق، خصوصاً البصرة، وغالبيتهم من الفئة المحسوبة على ما بات يعرف بالمدنيين والعلمانيين. غير أن كل التوقعات التي تحدثت عن تظاهرات صاخبة واحتجاجات ستجتاح الجنوب العراقي على غرار العام الماضي للمطالبة بالإصلاح وتوفير الخدمات وفرص العمل ومحاربة الفساد، لم تكن صائبة، فحتى الآن، يعدّ هذا الصيف هو الأقل زخماً من السنوات الماضية وتحديداً صيفي 2017 و2018.
ففي مثل هذا الأيام قبل عام، كانت السلطات في بغداد قد قرّرت إرسال قوات ضخمة إلى الجنوب لمواجهة الاحتجاجات في سبع مدن رئيسية، هي بابل والنجف وكربلاء والبصرة والمثنى والقادسية وذي قار. كما اضطرت على أثر هذه الاحتجاجات لإعلان حزمة من الوعود للجنوب تجاوزت قيمتها 5.7 مليارات دولار، وهي عبارة عن مشاريع خدمية ووظائف. غير أنّ أياً من تلك المشاريع لم ينفذ، بعد إلغاء الحكومة الجديدة برئاسة عادل عبد المهدي، كل قرارات الحكومة السابقة خلال فترة تصريف الأعمال برئاسة حيدر العبادي.
ويقول مسؤولون محليون وناشطون إنّ تراجع موجة الاحتجاجات في الجنوب بشكل عام والبصرة بشكل خاص، يأتي نتيجة لخطوات عدة اتخذتها الحكومة، وعلى جانبين: أمني وسياسي وحتى خدمي، مثل تحويل جزء من حصة بغداد من الكهرباء إلى الجنوب لإقناع الشارع هناك بحصول تقدّم في ملف الخدمات وأن الحكومة تستجيب فعلاً، إضافة إلى جهود ملموسة في مجالات عدة، لا سيما ما يتعلّق بقطاع المستشفيات الحكومية في جنوبي البلاد.
ووفقاً لمسؤول عراقي في بغداد تحدّث لـ"العربي الجديد"، فإنه بموازاة الجهود الحكومية للسيطرة على ملفي الكهرباء والماء كونهما المسبب الرئيسي لخروج التظاهرات كل صيف، والنجاح إلى حدّ واضح في المساهمة بتراجع تجاوب المواطنين مع دعوات الناشطين ولجان التنسيق للخروج بتظاهرات بسبب توفير ساعات كهرباء أكثر لمدن الجنوب هذا الصيف، فإنّ الانتشار الأمني المكثف ومنع التجمّعات، وتحركات الاستخبارات لتفكيك لجان التنسيق الخاصة بالتظاهرات، وكذلك التحرك نحو زعماء القبائل ورجال الدين للمساهمة في إخماد أي دعوات للتظاهر، نجحت فعلاً. إذ استجاب عدد من شيوخ العشائر الكبيرة في هذا الشأن، ولا سيما في البصرة وذي قار، حيث كان لذلك أثر في تراجع فورة الاحتجاجات وتلاشي خطر تفجرها كما حدث العام الماضي.
وشهدت البصرة الأسبوع الحالي اعتقالات لناشطين وصحافيين بتهمة تصوير وتغطية تظاهرات غير مرخصة، قبل أن يتم إطلاق سراحهم بعد ساعات من قبل قوات الجيش. كما شهدت اجتماعات مكثّفة بين قادة الأمن ومسؤولين محليين مع زعماء القبائل والعشائر العربية في جنوب العراق، تركزت على منح الحكومة فرصة لمعالجة جميع الملفات وتلبية الطلبات الخاصة بالخدمات والوظائف.
في السياق، قال عضو تنسيقية تظاهرات مركز محافظة البصرة، محي آل غضبان، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ التظاهرات في المحافظة "عادت بموسمها الجديد منذ منتصف الشهر الماضي، وهناك شعور ممزوج باليأس والإحباط والغضب أيضاً من الواقع ككل، فالمدينة تعاني من الفقر والإهمال والبطالة وتسلّط الأحزاب". وأوضح أنّ "السلطة المحلية في البصرة تسعى إلى قمع التظاهرات بطرق غير عنيفة، وذلك من خلال الاعتقالات وإجبار المعتقلين على كتابة تعهدات خطية بعدم الخروج مرة ثانية إلى الشوارع والمشاركة بالاحتجاجات، ثمّ إطلاق سراحهم على ضوء ذلك". وأشار إلى "إجراء جديد ومهم، لم يكن معتمداً في العام الماضي، وهو أنّ السلطات المحلية بالتعاون مع الغرف الإعلامية التابعة للأحزاب، تعمل على اختراق المجموعات الخاصة بالمتظاهرين على مواقع التواصل الاجتماعي، من أجل عرقلة الاتفاقات وتداول شؤون الاحتجاجات والاتفاق على الهتافات والمطالب، وذلك عبر مجموعة هاكرز"، مؤكداً أنه "مع ذلك، مستمرون بالتظاهر على الرغم من الظروف القاهرة ودرجات الحرارة المرتفعة".
أمّا الشيخ العشائري فايز السعد، فأشار في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "الدولة العراقية لا يمكن لها أن تستثني قادة وزعماء العشائر، لأنهم جزء مهم من تكوين المجتمع العراقي"، مضيفاً "العشائر لها دور مهم وكبير ومؤثر في الساحة الشعبية وتحديداً على سير العملية الاحتجاجية، وتوجيهاتها في دعم التظاهرات". ولفت إلى أنّ "الحكومة تواصلت مع العشائر خلال الشهرين الماضيين من أجل إعطاء جملة من الوعود التي لم تختلف عن الوعود السابقة في زمن حكومة العبادي، لتهدئة الاحتجاجات ومنع تفاقم الغضب الشعبي. ولكن لا يمكن لهذا التواصل أن يتحوَّل إلى ورقة لتمرير المشاريع الحكومية الوهمية وخداع أهالي البصرة".
وأوضح السعد أنّ "ما يحصل حالياً في البصرة، هو أن مافيات متنفذة على الأرض تعمل على مستوى عالٍ من التحكّم بالموارد المخصصة للأهالي وتقوم بأعمال خارجة عن القانون، منها إدارة السلاح وتجارة المخدرات وتهريب النفط والآثار"، مضيفاً أنّ "ما يحدث من احتجاجات هي ردود فعل عكسية من قبل الشبان المحرومين من أي فرصة عمل، في ظلّ عدم اهتمام حكومي". وقال السعد إنّ "الحكومة طلبت من العشائر أن تشارك بحماية الشركات النفطية".
وفي ذي قار، أشارت عضو مجلس النواب عن المحافظة، هيفاء الأمين، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "ذي قار تشهد أعلى مراحل التشديد الأمني والترقب لأي حالات عنف قد تحدث، كما أنّ هناك تخوفاً من احتمال استغلال بعض العناصر من جماهير الأحزاب من أجل النيل من المطالب السلمية للمتظاهرين". ولفتت الأمين إلى أن "الحكومة المحلية في مدينة الناصرية والقوات الأمنية، وحتى القوى المدنية التي تدعم الاحتجاجات، تعلم أنّ هناك من يحاول ركوب الموجة وحرف المطالب، للنيل من الحكومة، أو من أجل الدفع بعجلة التخريب والاعتداء على المال العام وممتلكات الدولة، وهذا التخوف دعا إلى ضرورة أن تكون التظاهرات هادئة إلى حدٍ ما في أحياء المحافظة".
وفي النجف، لم يخرج سوى العشرات من المواطنين مرتين فقط، الأولى في ناحية الحرية والثانية في ساحة مركز المدينة، بسبب التشديد الأمني والتعقيدات التي تمارسها القوات الأمنية في منح تراخيص الخروج بالتظاهرات، بحسب الناشط من المدينة وليد الحجيمي، موضحاً في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "الاعتقالات التي استهدفت ناشطين ومتظاهرين في البصرة، أثرت على الحركة الاحتجاجية في المدينة، ناهيك أصلاً عن تحسن التيار الكهرباء الذي يمثل المطلب الأساس للمحتجين خلال فصل الصيف الحار".