اتفاق على فاتورة طلاق "بريكست"...والحدود الإيرلندية عثرة كبرى في طريق المفاوضات

03 ديسمبر 2017
فاتورة بريكست قد تصل إلى 65 مليار يورو(البرتو بيزالي/Getty)
+ الخط -

تتجه الأنظار إلى الاجتماع المرتقب، الإثنين المقبل، إذ سيلتقي رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، برئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، لمناقشة القضايا الرئيسية الثلاث المكونة للمرحلة الأولى للمفاوضات بين الطرفين حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو "بريكست".

وإذا رأى رئيس الوفد الأوروبي المفاوض، ميشيل بارنييه، أن حصيلة هذا الاجتماع بما يتعلق بالقضايا الثلاث الرئيسية: فاتورة الطلاق، والحدود الإيرلندية، وحقوق المواطنين، مقنعة، فإنه سيوصي بحصول "تقدم كافٍ". وسيفسح هذا المجال لقادة الاتحاد الأوروبي، الذين سيجتمعون منتصف ديسمبر/كانون الأول الحالي، لإعطاء الضوء الأخضر للانتقال إلى المرحلة الثانية من المفاوضات، والتي تتعلق بالاتفاقيات التجارية بين الطرفين.

فاتورة الطلاق

وحدث انفراج في نقطة فاتورة الطلاق، التي كانت أعقد نقاط المفاوضات، فقد أذعنت بريطانيا أخيراً للمطالب الأوروبية بضرورة وفائها بالتزاماتها المادية تجاه الاتحاد. ويقدر أن تصل الفاتورة النهائية إلى ما بين 53 و58 مليار جنيه استرليني (60 إلى 65 مليار يورو). إلا أن بريطانيا لم تعلن التزامها بدفع مبلغ محدد، وإنما تم الاتفاق على آلية لتسديد التزاماتها المالية، والتي تشمل ميزانية الاتحاد الأوروبي حتى العام 2020، والفواتير غير المدفوعة، والقروض والرواتب التقاعدية، وغيرها من الالتزامات التي تراكمت بعد 44 عاماً من عضوية الاتحاد، وهو ما يضع الرقم الإجمالي عند 89 مليار جنيه.

إلا أن هذا الرقم ينخفض بعد طرح الأموال التي يفترض أن يستثمرها الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، مثل تمويل مشاريع البنية التحتية. كما يطرح أيضاً من هذه الالتزامات مساهمة لندن في بنك الاستثمار الأوروبي. ولن تدفع بريطانيا المبلغ بمجمله دفعة واحدة، بل سيمتد على مدة طويلة من الزمن. كما أن مساهمة بريطانيا في الرواتب التقاعدية الأوروبية ستستمر، حتى وفاة جميع المستفيدين منها في المملكة المتحدة. ويمثل هذا الاتفاق تحولاً كبيراً في الموقف البريطاني. فقد ادعى مناصرو الخروج من الاتحاد الأوروبي خلال الاستفتاء على "بريكست" العام الماضي أن هذا الأمر لن يكلف بريطانيا شيئاً، وإنما سيدر نحو 350 مليون جنيه أسبوعياً في الخدمات الصحية العامة البريطانية. وبعد مرور أكثر من عام على ذلك، تقدمت تيريزا ماي في خطابها في فلورنسا بعرض يشمل دفع 20 مليار يورو وفاء لالتزاماتها في ميزانية الاتحاد الأوروبي، التي تنتهي عام 2020. إلا أن هذا الرقم تضاعف الأسبوع الماضي إلى 40 مليار يورو، قبل أن يصل إلى التفاهم الحالي.

ويبدو أن تيريزا ماي قد نجحت في إقناع مناصري "بريكست" المتشددين في حكومتها بهذه الالتزامات، إذ لم تصدر أية تعليقات سلبية من طرف وزير الخارجية، بوريس جونسون، أو وزير البيئة، مايكل غوف. ولكن أنصار "بريكست" خارج الحكومة، مثل نايجل فاراج، الرئيس السابق لحزب استقلال المملكة المتحدة والذي كان أحد الأوجه الرئيسية في حملة "بريكست"، اعتبر هذا المبلغ "تنازلاً كلياً"، وأنه كان "من الأجدر على بريطانيا أن تنسحب" من الاتفاق. وتلقى هذا التفاهم ترحيباً من الأحزاب المعارضة ومن مؤيدي الاتحاد الأوروبي الراغبين بالوصول إلى "بريكست" مخفف. إلا أن عدداً ممن دافعوا عن البقاء في الاتحاد الأوروبي انتقدوا الخطوة بأنها تخالف ما وُعد به الناخبون خلال الاستفتاء، إضافة إلى جدوى دفع لندن مثل هذه المبالغ الطائلة للخروج من الاتحاد الأوروبي الذي تستفيد بريطانيا جلياً من عضويته. وعلق النائب العمالي، تشوكا أومونا، على الأمر، قائلاً "هذا أمر ضروري، وهو ما لم يصوت له الناخبون، ولذلك يجب أن نبقى منفتحين حول ما يمكن أن تصل إليه هذه المفاوضات". وهو ما يصب في صالح دعوات النائبة العمالية، ديان أبوت، حول ضرورة إجراء استفتاء حول الصفقة النهائية التي ستصل إليها بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي.


الحدود الإيرلندية

ومع ظهور ملامح التوافق على فاتورة الطلاق، تصعد مشكلة الحدود الإيرلندية إلى واجهة المفاوضات. فالحدود البريطانية الإيرلندية هي الحدود البرية الوحيدة بين الطرفين. وتكمن المعضلة في ضرورة عدم رفع حدود صلبة بين الجمهورية الإيرلندية وإيرلندا الشمالية (جزء من المملكة المتحدة)، وذلك لضمان استقرار الجزيرة الإيرلندية، واتفاق الجمعة العظيمة الذي جلب تسوية سلمية لإيرلندا الشمالية. ورهن الاتحاد الأوروبي موقفه في هذه القضية بموقف إيرلندا من الحدود، وبالتالي فإن التوصل إلى "تقدم كاف" يتطلب قبول إيرلندا بالعروض البريطانية، وإن لم يتم ذلك فتستطيع إيرلندا أن تنقض اتفاق الاتحاد الأوروبي مع لندن، كون القرارات الأوروبية تتخذ بالإجماع. وقال دبلوماسي أوروبي إن "وضع فاتورة الطلاق جيد الآن. لكن الحدود هي المشكلة الكبرى. ولا أرى كيف يمكن حل هذه المشكلة. هي المشكلة الكبرى حالياً والأمر يعود إلى الإيرلنديين".

وبالفعل يبدو أن الحدود الإيرلندية قد تؤدي إلى انهيار المحادثات مجدداً، إذ قال أحد المسؤولين الأوروبيين إن "هناك إشارات عديدة آتية من إيرلندا حول استخدامها الفيتو. وإذا استمرت الأمور على ما هي عليه، فإن هناك احتمال 50 في المائة أن يحدث ذلك." ويوجد توافق بين الطرفين على عدم إنشاء نقاط حدودية بين الطرفين، ورفع حدود صلبة تفصل إيرلندا وإيرلندا الشمالية. لكن الجمهورية الإيرلندية تريد التوصل إلى تفاهم موثق قبل الانتقال إلى المفاوضات التجارية، بينما ترى بريطانيا أن وضع الحدود مرتبط بالاتفاق التجاري اللاحق. وقال وزير المواصلات البريطاني، كريس غرايلنغ، "قلنا إننا حتماً لا نريد العودة إلى الحدود الصلبة، لا نرى داعياً لذلك، ولكن بالطبع أتمنى أن نصل إلى اتفاق تجارة حرة معقول، وهو ما سيجعل من الأمر غير ذي أهمية." كما كانت بريطانيا قد نفت مسبقاً احتمال بقاء إيرلندا الشمالية في السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الجمركي، نظراً لاحتمال فصلها عن المملكة المتحدة. كما أن حكومة تيريزا ماي الهشة تعتمد على أصوات الحزب الديمقراطي الوحدوي من إيرلندا الشمالية للحفاظ على أغلبيتها البرلمانية. يذكر أن الحزب الديمقراطي الوحدوي يمثل أصوات البروتستانت الراغبين في البقاء كجزء من بريطانيا، مقابل حزب "شين فين" الممثل للكاثوليك المؤيدين للجمهورية الإيرلندية.



حقوق المواطنين

لم تتقدم المباحثات في موضوع حقوق المواطنين كثيراً في الشهرين الماضيين. فبعد تفاهم أولي بين الطرفين على ضرورة حماية حقوق المواطنين الأوروبيين المقيمين في بريطانيا، والبريطانيين المقيمين في دول الاتحاد، تكمن المشكلة الرئيسية في قبول سلطة محكمة العدل الأوروبية في بريطانيا. فالاتحاد الأوروبي يطالب بأن تكون محكمة العدل الأوروبية السلطة التي تعود إليها قضايا المواطنين الأوروبيين في بريطانيا، في استمرار للوضع الحالي. لكن الموقف البريطاني، المؤيد لـ"بريكست" والمطالب "باستعادة السيطرة" البريطانية يعتبر سلطة المحاكم الأجنبية داخل بريطانيا خطاً أحمر. إلا أن تيريزا ماي أبدت ليونة في هذا الموضوع، في كلمتها التي ألقتها في فلورنسا، إذ أبدت قبولها بفترة انتقالية تمتد لعامين تستمر الأمور فيها على ما هي عليه حالياً. ومع استمرار المفاوضات في هذا الشأن، تتقارب وجهات نظر الطرفين على الحقوق، لكنها لا تزال مفترقة حول آلية حمايتها.

ماذا بعد ذلك؟

اتفق الطرفان في يونيو/حزيران الماضي على أن يتبع حصول "تقدم كافٍ" في المفاوضات الأولية حول النقاط المذكورة بدء المحادثات التجارية التي سترسم العلاقة المستقبلية بين الطرفين. وهو ما سيبت فيه زعماء الاتحاد الأوروبي الذين سيجتمعون في بروكسل في 14 و15 ديسمبر/كانون الأول. إلا أن المباحثات التجارية المنتظرة لن تكون بالسهولة المتوقعة، بل ربما ستتجاوز في صعوبتها النقاط الأولية. فلا يبدو أن الاتحاد الأوروبي سيكون أكثر مرونة حول الموقف البريطاني الراغب في الحصول على أكبر قدر من التجارة الحرة وأكبر قدر من السيادة في الوقت ذاته. فالنظام الأوروبي الحالي يربط حرية الحركة وحرية التجارة سوية، وبالتالي عضوية السوق الأوروبية المشتركة تفرض التنازل عن أوجه سيادية لصالح الاتحاد، وهو ما يمثله النموذج النرويجي، ما ترفضه بريطانيا أيضاً. أما الخيار الثاني فهو النموذج الكندي، والذي يمنح وصولاً تجارياً  أقل.

لكن السياسيين البريطانيين أبدوا رغبتهم في الوصول إلى نموذج خاص بهم، مبني على العلاقة الخاصة بالاتحاد الأوروبي. وهو ما لا يبدي الأوروبيون حماساً تجاهه. وللوصول إلى مثل هذه الاتفاقية يتطلب الأمر جهداً تفاوضياً لا يبدو أن الطرف البريطاني، في وضعه هذا بعد الاستسلام للمطالب الأوروبية حول فاتورة الطلاق، قادر على تحقيقه. بل إن الاحتمال الأسوأ هو المطروح على الطاولة، وإن كان طرفا التفاوض يرفضان التطرق إليه، ألا وهو الخروج من دون صفقة تجارية تحكم العلاقة بين الطرفين. فضعف الحكومة البريطانية الداخلي، إضافة إلى التصدع في صفوف حزب المحافظين الحاكم، لا يمنحان الفريق التفاوضي المرونة الكافية. بينما لا يبدي الاتحاد الأوروبي استعداداً لقبول مثل هذه الحلول التي تقوض نظامه الحالي. وهذا السيناريو قد يكون أقرب مما يتصور، في حال لم ير الأوروبيون حصول التقدم الكافي في المفاوضات خلال قمتهم المقبلة. فهم أيضاً لا يرغبون في التحدث عن المرحلة الانتقالية حتى مارس/آذار المقبل قبل التوصل إلى التقدم المطلوب. ولهذا الأمر تبعات على الأعمال التي تتخذ من بريطانيا مقراً لها، إذ سيضطر رجال الأعمال إلى تبني خطط طارئة للخروج من بريطانيا خلال مهلة لا تتجاوز العام. لكن يبدو أن الطرف البريطاني واعٍ لهذه المخاطر، إذ قال الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قبل نحو 10 أيام، إن تيريزا ماي لم تطرح أبداً خيار عدم الاتفاق خلال المفاوضات، وأن الضوضاء حوله ما هي إلا تكهنات وادعاءات كاذبة من قبل أطراف ثانوية، وهو أمر طبيعي في هذه المفاوضات.