لطالما أخذ موضوع المقاتلين الأجانب في التنظيمات الإرهابية، حيزاً كبيراً في المحادثات التي تجري بين الأطراف الدولية المعنية بالشأن السوري أو التي تضررت من تبعات العمليات الإرهابية، بعدما شكل عناصر تنظيم "داعش" الأجانب تهديداً حقيقياً للبلدان الأصلية التي جاؤوا منها، لا سيما الدول الأوروبية التي عانت من تبعات عودة هؤلاء إلى بلدانهم بعد القتال إلى جانب التنظيم في السنوات السابقة، فبات كل حلّ سياسي أو عسكري لأي مسألة تتعلق بسورية وغيرها من دول المنطقة مرتبطاً بإيجاد حلّ للمقاتلين الأجانب.
وتتهرب معظم الدول من التبعات القانونية لوجود معتقلين من "داعش" من مواطنيها، إذ يتطلب ذلك توفير سجون خاصة وإجراء محاكمات محددة لهم، خصوصاً في أوروبا التي لا تصدر أحكاماً بالإعدام، لتُشكّل هذه القضية عقدة شائكة بين الدول التي تعتقل مقاتلي التنظيم الأجانب وبين الدول الأصلية التي جاؤوا منها، ولا سيما مع بروز الفشل الأميركي في إدارة معتقل غوانتانامو وتبعات ذلك. وحتى أنّ الولايات المتحدة التي دعمت "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) في سورية، تبدو حائرة بأمرها في ما يتعلّق بمصير هؤلاء المقاتلين بعد اعتقالهم، فلا بلدانهم ترغب باسترجاعهم، ولا هي قادرة على نقلهم ومحاكمتهم في أميركا، فيما بقاؤهم في سورية وهروبهم من السجون يشكّل تهديداً آخر، فضلاً عن عوائل هؤلاء المقاتلين التي تشكّل بدورها عبئاً كبيراً بسبب وجود الكثير من النساء والأطفال.
وخلال المباحثات التركية الأميركية لإنشاء "المنطقة الآمنة" شمال شرق سورية، كان موضوع تسلم أنقرة مقاتلي "داعش" الأجانب، ضمن المفاوضات التي جرت بين الأخيرة وواشنطن، مقابل تعهد تركيا بإيجاد حلّ لهذه المسألة، وإجراء حوارات مع الدول الأوروبية والغربية لاستلام مواطنيها، على الرغم من تجريد تلك الدول بعض المقاتلين من الجنسية. ومع انطلاق العملية العسكرية التركية في منطقة شرقي الفرات الشهر الماضي، بدأت أنقرة بتسلم مقاتلي "داعش". وبعد الإعلان عن مقتل زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي في إدلب أخيراً، ازدادت وتيرة القبض على أعضاء "داعش" وأقرباء البغدادي داخل تركيا وفي المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة في سورية، ومنهم زوجة وأخت وابن البغدادي. وأفاد مسؤولون أتراك بأن زوجة الأخير قدّمت معلومات استخبارية هامة جداً بعد اعتقالها، قادت للاعتقالات الأخيرة في تركيا، إذ ألقي القبض على عشرات المسؤولين في التنظيم، فضلاً عن اعتقالات أخرى في الداخل السوري في مناطق "درع الفرات" و"غصن الزيتون"، بالتعاون مع الفصائل السورية المعارضة.
وأعلن وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، أول من أمس الجمعة، أنّ تركيا ستبدأ اعتباراً من الأسبوع المقبل، بترحيل مقاتلي تنظيم "داعش" الأجانب إلى بلدانهم، قائلاً لوكالة "الأناضول": "نقول لكم الآن إننا سنقوم بإعادتهم إليكم، سنبدأ ذلك الإثنين"، فيما كان الوزير قد أكد قبل أسبوع أنّ تركيا ليست فندقاً لعناصر تنظيم "داعش" من مواطني الدول الأخرى، مشدداً على أنّه "لا يمكن قبول تجريد عناصر داعش من الجنسية وإلقاء العبء على عاتق الآخرين، فهذا تصرف غير مسؤول".
ويبدو أنّ المساعي التركية أتت ثمارها، مع إعلان المتحدث باسم وزارة الداخلية الألمانية ستيف ألتر، أنّ حكومة بلاده هي في حوار مع السلطات التركية لإعادة المواطنين الألمان في تنظيم "داعش"، وأن برلين ستقبل استعادتهم، وسيتم اعتقالهم وفق مبادئ تحددها الحكومة الألمانية.
ومن الواضح أنّ السلطات التركية تعمل على أكثر من مسار لإعادة المقاتلين، مستغلةً ورقة اللاجئين، وخطر انتقال هؤلاء العناصر إلى أوروبا عبر موجة اللجوء في حال غياب الحل السياسي في سورية، وازدياد التصعيد في إدلب، وعدم دعم "المنطقة الآمنة" التي أنشأتها شرقي الفرات، وإعادة اللاجئين إليها. وذلك قبيل القمة الرباعية التي تُعقد في لندن بعد أقل من شهر بمشاركة تركية ألمانية فرنسية بريطانية، والتي سيكون لها دور كبير في تحديد هذا المسار وتوضيحه أكثر، فضلاً عن قمة الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والأميركي دونالد ترامب في واشنطن الأسبوع المقبل.
وكان صويلو قد أعلن قبل أيام أنّ بلاده تعتقل ما يقارب 1200 عنصر من "داعش" في السجون التركية، من الأتراك والأجانب، 287 عنصراً منهم اعتُقلوا بعد إطلاق العملية التركية شرقي الفرات، ومن بينهم نساء وأطفال. ويعمل المسؤولون الأتراك على إحالة الموقوفين إلى السلطات القضائية، وسيُرسَلون إما إلى السجون أو إلى مراكز الترحيل لإعادتهم إلى بلدانهم، وفق صويلو.
وقبل ذلك كان وزير العدل التركي عبد الحميد غل، قد صرح في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أنّ تركيا تعتقل في مناطق "غصن الزيتون" و"درع الفرات" 268 عنصراً من "داعش"، وفي داخل تركيا 163، صدرت بحقهم قرارات الاعتقال. في حين أنّ أردوغان كان قد صرح بدوره عقب انطلاق العملية التركية الأخيرة عن إرسال بلاده في السنوات السابقة 5500 عنصر من "داعش" إلى دولهم من بينها فرنسا وألمانيا وهولندا، في ظلّ غياب كامل للإحصائيات الرسمية الدقيقة حول أرقام المعتقلين وجنسياتهم.
وتعتمد تركيا بشكل كبير على 3 مسارات لاعتقال عناصر "داعش". الأول عبر الاستخبارات الداخلية ضمن تركيا، إذ يتم اعتقال مسؤولين وأعضاء في التنظيم بشكل مستمر بمختلف ولايات البلاد عقب عمليات أمنية، خصوصاً بعد أن تعرضت تركيا لهجمات مؤلمة من قبل التنظيم خلفت مئات الضحايا وأضرت بالسياحة لا سيما في العام 2017، فيما أفضت التحقيقات إلى اعتقال خلايا كثيرة نائمة في البلاد من السوريين والأتراك وبقية الأجانب. المسار الثاني هو في الداخل السوري ويعتمد على التعاون مع فصائل المعارضة السورية، عبر العمليات الاستخبارية، واعتقال عناصر "داعش" وإبقائهم في سجون داخل مناطق سيطرة المعارضة. أمّا المسار الثالث، فمرتبط بالتعاون الدولي مع الدول التي لديها مواطنون منضمون إلى "داعش" هم في تركيا أو في سورية، ويتم اعتقالهم بتبادل المعلومات الاستخبارية.
وبانتظار التفسير الواضح لكلام صويلو عن إعادة المعتقلين من مقاتلي التنظيم، فإنّ ألمانيا تبدو الوجهة الأولى التي ستتم إعادتهم إليها بناءً على الاتصالات الرفيعة التي جرت أخيراً خلال زيارة وزير الخارجية هايكو ماس إلى تركيا بعد بدء العملية التركية، وما تلا ذلك من مكالمة هاتفية بين أردوغان والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتصريحات الإيجابية اللاحقة من ألمانيا. وفي قادم الأيام ستظهر تفاصيل أكبر عن البلدان التي سيتم ترحيل المقاتلين إليها، إذ إنّ بدء عملية الترحيل سيشكل ضغطاً كبيراً على بقية البلدان ويحرجها لأن تستعيد مواطنيها.