لكن تحويل موضوع ضم غور الأردن إلى سجال انتخابي، بعد أن سارع نتنياهو، أمس الأربعاء، إلى وضعه في صلب حملة الدعاية الانتخابية، لم يكن مستغرباً ولا هو بجديد. فقد سبق لنتنياهو، عشية الانتخابات المعادة، ولضمان أصوات المستوطنين ومعارضي حل الدولتين، أن أعلن، في العاشر من سبتمبر/أيلول الماضي، أي قبل أسبوع من الانتخابات، أن حكومته ستعمل على إقرار ضم غور الأردن وشمالي البحر الميت، بعد الانتخابات، بعد أن اعترض المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية، على اتخاذ قرار الضم تحت ولاية حكومة انتقالية (حكومة تصريف أعمال). وزاد نتنياهو، خلال إطلاق الحملة الدعائية أمس، أن الضم لن يشمل غور الأردن فقط بل سيتم فرض القانون الإسرائيلي أيضاً على كافة الكتل الاستيطانية الرئيسية، وباقي المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة. وجاءت تصريحات نتنياهو رداً على تعهدات من غانتس خلال جولة في غور الأردن، الثلاثاء الماضي، قال خلالها إن ضم المنطقة سيكون على جدول أعمال حكومته بعد الانتخابات، لكن من خلال التنسيق مع المجتمع الدولي وعبر عملية تسوية إقليمية.
لكن المهم بعيداً عن السجال الانتخابي وتراشق التصريحات بين نتنياهو وغانتس، هو الحقيقة البارزة للعيان، ربما، للمرة الأولى في العقد الأخير في إسرائيل، وهي تحول مسألة ضم غور الأردن ومنطقة شمالي البحر الميت إلى أمر مقبول وشبه مفهوم ضمناً في السياسة والمواقف الإسرائيلية، دون حاجة لاعتذار أو حتى أخذ الطرف الآخر، أي الفلسطينيين، بعين الاعتبار وإسقاطهم كلياً من الحسابات السياسية الإسرائيلية. وعملياً فإن تصريحات غانتس، أول من أمس، ليست هي الأخرى جديدة، بقدر ما هي إسقاط للقناع عن التعابير التي كان يختبئ خلفها خلال دعايته الانتخابية في المعركتين السابقتين، حيث كان يكتفي بالحديث عن تكثيف الاستيطان في الكتل والإبقاء على السيطرة الأمنية والعسكرية على غور الأردن بأيدي إسرائيل، تحت دعاوى الأهمية الاستراتيجية، ليتضح هذا الأسبوع من جديد أن الخلاف الحقيقي هو على الشكل والتوقيت والأداة (مؤتمر لتسوية إقليمية) وليس على الجوهر.
ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى أن برنامج غانتس المعلن، حتى قبل يومين، كان في الواقع تبنياً للبرنامج التاريخي ليغئال ألون، قائد عصابات "البلماح" خلال حرب النكبة، ووزير العمل خلال حرب 1967، حيث قدم خطته في يوليو/تموز من العام نفسه بعد انتهاء الحرب. وشكلت خطة يغئال ألون، التي حملت اسم "مستقبل المناطق وسبل التعامل مع اللاجئين"، المسار العام لسياسات حكومة الاحتلال في العقد الذي تلى حرب يونيو/حزيران، حتى صعود "الليكود" للحكم، ومن ثم البوصلة الموجِهة حتى لحكومة إسحق رابين عند إقرارها اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993. وكان رابين أعلن، في آخر خطاب له أمام الكنيست في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول، قبل شهر من اغتياله في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 1995، أن الاتفاق لا يمنح الفلسطينيين دولة كاملة السيادة، ويحدد غور الأردن باعتباره الحدود الشرقية لدولة الاحتلال. وقال رابين، في خطابه وقتها، "إننا نرى الحل الدائم في إطار أراضي دولة إسرائيل، بحيث يشمل غالبية مساحة أرض إسرائيل، التي كانت خاضعة لسلطة الانتداب البريطاني - هذا لا يشمل طبعاً هضبة الجولان ــ وإلى جانبها كيان فلسطيني يكون وطناً لغالبية السكان الفلسطينيين الذين يعيشون في قطاع غزة والضفة الغربية. نريد أن يكون كياناً أقل من دولة، يدير بشكل مستقل حياة الفلسطينيين الخاضعين لسلطته. حدود دولة إسرائيل في الحل الدائم ستكون وراء الحدود التي كانت قائمة قبل حرب الأيام الستة، لن نعود لخطوط الرابع من يونيو/حزيران 1967". وأكد رابين أن "الحدود الأمنية لحماية دولة إسرائيل ستكون في غور الأردن، في أوسع تفسير لهذا المصطلح. سيتم إجراء تغييرات لضم كتلة غوش عتصيون وإفرات وبيتار ومستوطنات إضافية تقع غالبيتها شرقي ما كان يسمى بالخط الأخضر قبل حرب الأيام الستة".
مع ذلك، وبالعودة إلى تراشق التصريحات بين نتنياهو وغانتس، فإنه يمكن القول عطفاً على ما ذكرناه من خطاب رابين، إن التحول الجديد، أو التغيير الأساسي الذي فرضته أجواء المعركة الانتخابية، يتمثل في إسقاط القناع عن الحلم الصهيوني بضم غور الأردن وشمالي البحر الميت، وبالتالي فرض حقائق على الأرض تحول "وفق التصور الإسرائيلي" دون قيام دولة فلسطينية، وبالتالي فرض مقترح الحكم الذاتي على أقل من 40 في المائة من أراضي الضفة الغربية، إذا أخذنا بالحسبان أن مساحة غور الأردن، تشكل بحسب معطيات رسمية لمؤسسة بتسيلم الإسرائيلية، نحو 30 في المائة ومثلها أراضي المنطقة "سي"، ناهيك عن الأراضي التي ابتلعها الاحتلال في القدس المحتلة وما حولها من قرى فلسطينية ضمها للمدينة للاستيلاء على عشرات آلاف الدونمات، التي أقيمت عليها مجموعة من المستوطنات، مثل رمات أشكول، وبسجات زئيف، وجفعات زئيف، ونافيه يعقوف، والتلة الفرنسية، وهار حوماه، وأرمون هنتسيف، وغيلو.
ولا يغيب في هذا السياق التذكير بالمراوغة التي اتبعها نتنياهو خلال فترة ولاية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، خلال مساعي المفاوضات بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال تحت مبادرة وزير الخارجية الأسبق جون كيري. علماً بأن نائبة وزيرة الخارجية الإسرائيلية في ذلك الوقت تسيبي حوتفيلي كانت كشفت خلال فبراير/شباط 2014، أن نتنياهو أكد، في جلسة مغلقة لكتلة "الليكود"، أن خطاب بار إيلان الذي تحدث فيه عن حل الدولتين والاتصالات مع جون كيري ليست إلا محاولات لكسب الوقت وتفادي فرض حل على إسرائيل من قبل إدارة أوباما. وقد تعززت صحة تصريحات حوتفيلي هذه، خلال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للقدس المحتلة في مايو/أيار 2017 وإعلانه الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل، حيث كشف مدير ديوان نتنياهو السابق نتان إيشيل أنه كان صاحب فكرة خطاب بار إيلان، وأنه طرح على نتنياهو فكرة إلقاء الخطاب لتجنب اضطراره لاتخاذ خطوات فعلية تحت ضغوط أوباما.
وأمس أقر وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس، في مقابلة مع محطة "إف 105" الإذاعية، بأن تصريحات نتنياهو بشأن ضم غور الأردن تندرج ضمن الدعاية الانتخابية، مضيفاً أن سياسة حكومة نتنياهو في عهد ولايتي أوباما كانت صد الضغوط الأميركية، خصوصاً أن "أوباما كان يعارض أي نشاط استيطاني في الضفة الغربية أو حتى بناء حجر واحد في القدس أو أي مكان آخر. بعدها جاءت إدارة ترامب، والاعتراف بالقدس وهضبة الجولان، وأصبحت الأرضية مهيأة للدفع قدماً بمسألة ضم غور الأردن. من المحتمل أن تكون هناك فرصة للدفع بمبادرة تحظى بشرعية أميركية، وربما أيضاً اعتراف بسيادة إسرائيل على غور الأردن". ورداً على سؤال حول احتمال أن يأتي ذلك ضمن خطة "صفقة القرن" الأميركية، قال كاتس إنه "يمكن أن تنشأ أوضاع معينة. إذا تضمنت الخطة عناصر تعترف بحق إسرائيل، فقد تكون هذه فرصتنا لتحقيق هذا الأمر حتى لو رفض الفلسطينيون. أعتقد أن رئيس الحكومة خبير بذلك. صحيح أن هذا جزء من المعركة الانتخابية، لكن مع ذلك ينبغي أن يكون هناك جوهر حقيقي لهذا الأمر (أي للدعاية الانتخابية). توجد هنا فرصة إذا تمكنا من فرض السيادة الإسرائيلية على غور الأردن ستكون لحظة تاريخية مشابهة للحظة فرض القانون الإسرائيلي على الجولان، فقد كان هذا الأمر دائماً موقع إجماع بين الوسط واليمين. الاستيطان في غور الأردن كان منذ البداية استيطان مباي (في إشارة لحزب مباي التاريخي الذي نتج عنه حزب العمل)، تثبيت الحدود هو أمر غير عادي".