ليست الاحتجاجات التي تفجّرت في شوارع مدينة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا الأميركية وتمددت إلى مناطق أخرى، بعد مقتل الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد (46 عاماً)، مساء الإثنين، على يد الشرطة، مجرد غضب آني على حادثة منفردة، بل احتجاج على مسار طويل من التمييز ضد الأميركيين السود بات يمثّل صورة نظام عززها دونالد ترامب منذ وصوله إلى الحكم قبل نحو 4 سنوات. الوقت الذي تطالب به السلطات لمحاسبة قتلة فلويد، لم يعد خياراً بالنسبة للمتظاهرين، الذين انتظروا لسنوات عدالة لم تأتِ، منذ مقتل إيريك غارنر في نيويوك عام 2014، مختنقاً خلال قيام رجال شرطة بيض بتوقيفه لاشتباههم بأنه يبيع سجائر مهربة. وأجج مقتل الشاب الأسود أحمد آربري في فبراير/ شباط الماضي، برصاص ضابط شرطة سابق وابنه، أثناء ركضه في الحي الذي يقطنه بولاية جورجيا، غضب الأميركيين من أصل أفريقي، خصوصاً بعدما ترددت سلطات الولاية في اعتقال القاتلين، وهما من أصحاب البشرة البيضاء، قرابة شهرين، قبل تدخّل مكتب التحقيقات لتوقيفهما.
وبعد سلسلة عمليات القتل الطويلة لأميركيين من أصول أفريقية على يد أفراد الشرطة، أصبح واضحاً أن تنفيذ القوانين يحصل على أساس التمييز العرقي، الذي غذّته أجيال من السياسات الحكومية، لتدفع هذه العوامل إلى تأجيج الانتفاضة في أعقاب مقتل فلويد، "فلا سلام بلا عدالة"، كما هتف المحتجون، الذين لم يتوانَ بعضهم عن إحراق مركز للشرطة تعبيراً عن غضبهم من سلطة لا ترى فيهم سوى "رعاع"، وفق تعبير ترامب، الذي هدد بأنه "عندما يبدأ السلب والنهب يبدأ إطلاق الرصاص".
وتم فصل رجال الشرطة الأربعة الذين شاركوا في الواقعة، ومن بينهم الضابط ديريك شوفين، الذي شوهد وهو يضغط بركبته على عنق فلويد، لكن لم يتم توقيفهم، وجرى فتح تحقيق في الحادث. وتساءل رئيس بلدية مينيابوليس جاكوب فراي "لماذا الرجل الذي قتل جورج فلويد ليس في السجن؟". وأضاف "لو كنتم أنتم أو أنا الذين فعلنا ذلك لكنا الآن وراء القضبان".
وأصبحت شكاوى القوة المفرطة ضد ضباط مينيابوليس منتشرة، خصوصاً من قِبل الأميركيين من أصل أفريقي. الضابط شوفين، الذي ظهر وهو يضغط على رقبة فلويد، تم تقديم العديد من الشكاوى ضده، ثلاث منها أدت إلى توبيخه. وبحسب وكالة محلية، أطلق شوفين النار على رجل كان يحاول الإمساك بمسدس ضابط في عام 2008، كما كان حاضراً في إطلاقين آخرين للنار، أحدهما قاتل.
وفيما بيانات إدارة الشرطة تكشف أن الأميركيين من أصل أفريقي يشكّلون حوالي 20 في المائة من سكان مدينة مينيابوليس، توضح الأرقام أنهم معرضون للاعتقال واستخدام القوة ضدهم أكثر من السكان البيض. وتشير البيانات إلى أن السود كانوا يمثلون أكثر من 60 بالمائة من الضحايا في عمليات إطلاق النار التي قامت بها شرطة مينيابوليس منذ أواخر عام 2009 حتى مايو/ أيار 2019. وهناك خلاف عميق بين شرطة المدينة، التي يغلب عليها اللون الأبيض، والمجتمع المحلي.
وتمثّل مينيابوليس مثالاً للتمييز ضد الأميركيين الأفارقة، الذين يتخرجون من المدرسة الثانوية بمعدلات أقل بكثير من البيض، وهم أكثر عرضة للبطالة ويميلون إلى العيش في أسر ذات مداخيل أقل بكثير من نظرائهم البيض.
وقال مايك غريفين، وهو مسؤول مجتمعي في مينيابوليس، لوسائل إعلام أميركية: "نريد العدالة لجورج فلويد، ولكن هذا يتعلق أيضاً بكرامة السود. كان علينا أن نحارب بأسناننا وأظافرنا لأبسط مستويات المعيشة. إذا كنت أبيض، فهذه مدينة رائعة. إذا كنت أسود، فهو صراع كل يوم". من جهته، قال أستاذ الحقوق المدنية في جامعة مينيسوتا، ميرون أورفيلد، في بريد إلكتروني، إن الفصل العنصري في المدارس ينمو بشكل أسرع في مينيابوليس منه في معظم الأماكن في البلاد.
في ظل هذه الوقائع، ليس غريباً أن تتحوّل قضية فلويد إلى غضب مجتمعي واسع، تفجّر احتجاجات شعبية تخطت حدود ولاية مينيسوتا. وشهدت الاحتجاجات في يومها الثالث، ليل الخميس، أعمال شغب، واحتشد محتجون خارج أحد مراكز الشرطة في مدينة مينيابوليس وهاجموا المبنى وأضرموا النار فيه فيما كان رجال الشرطة ينسحبون منه. وقُتل شخص في المدينة خلال الحرائق والمواجهات بين المحتجين وقوات الأمن. واشتبك المتظاهرون مع الشرطة ونهبوا متاجر وأضرموا النيران في آخر وفي موقع بناء، طوال الليل، في المدينة الواقعة في شمال الولايات المتحدة، وهو ما ردت عليه الشرطة بإطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي. وجرت احتجاجات خارج منزل أحد ضباط الشرطة البيض الأربعة الضالعين في اعتقال ووفاة فلويد. وفي وقت سابق، الخميس، أغلقت عشرات الشركات والأعمال في كل أنحاء المدينة نوافذها وأبوابها في محاولة لمنع النهب. وأغلقت مينيابوليس تقريبا نظام السكك الحديدية الخفيفة بالكامل وكل خدمات الحافلات حتى يوم الأحد بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة.
وقال ناشط مدافع عن حقوق السود في مينيابوليس خلال الاحتجاجات إن "هناك أناساً يتفاعلون مع نظام عنيف... لقد سئم الكثير من الناس من ذلك". من جهتها، قالت ميشيل غروس، وهي ناشطة في المجموعة المحلية "المواطنون المتحدون ضد وحشية الشرطة": "إذا كانت الجريمة مسجلة على شريط فيديو ليراها الجميع، فلماذا لا يكون القتلة في السجن الآن؟". وهتف المحتجون "لا عدالة ولا سلام... لاحقوا الشرطة".
وتمددت التظاهرات إلى خارج المنطقة. وتم إغلاق مبنى الكابيتول في دنفر بعدما أطلق أحدهم النار بالقرب من تظاهرة سلمية. وتحولت الاحتجاجات في كولومبوس، أوهايو، إلى حالة من الفوضى حيث أظهرت مقاطع الفيديو التي نشرتها وكالات الأنباء المحلية حشوداً تصعد خطوات إلى مبنى الكابيتول وتكسر النوافذ. وأفادت صحيفة محلية بأن الضباط استخدموا أيضا رذاذ الفلفل ضد حشود كبيرة من المتظاهرين وسط المدينة. وفي لوس أنجليس أغلق متظاهرون لفترة قصيرة طريقاً سريعاً، وقام بعضهم بتحطيم نوافذ سيارات الشرطة والصعود على سطحها.
وأمام تصاعد وتيرة الاحتجاجات، استدعى حاكم ولاية مينيسوتا تيم والز، الحرس الوطني للمساعدة في استعادة الأمن. وقال الحرس الوطني في مينيسوتا إنه دفع بأكثر من 500 جندي لمساعدة السلطات المحلية.
وارتفعت أصوات في كل أنحاء البلاد تطالب بإحقاق العدل. وقالت بريدجيت فلويد، شقيقة جورج: "ارتكبوا جريمة قتل بحق أخي"، مؤكدة أن طرد الشرطيين "ليس كافياً". وقال فيلونيز، شقيق الضحية لمحطة "سي ان ان"، إنّه "يجب توقيف هؤلاء الأشخاص ومحاسبتهم على كل شيء لأن الناس تريد العدالة الآن".
وطلبت اللجنة القضائية في مجلس النواب الأميركي، والتي يهيمن عليها الديمقراطيون، من وزارة العدل التحقيق في سوء سلوك ممنهج من جانب الشرطة، وذلك عقب موت عدد من الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية على أيديها. وأثار موت جورج فلويد، وكذلك بريانا تيلور، التي تعرضت لإطلاق نار في شقتها في لويزفيل بولاية كنتاكي، تساؤلات حول ما إذا كانت الشرطة ضالعة في "نمط أو ممارسة سلوك مناف للدستور"، كما كتب رئيس اللجنة القضائية جيرولد نادلر وغيره من الأعضاء الديمقراطيين لوزير العدل وليام بار في رسالة. وطلبت الرسالة أيضاً من الإدارة التحقيق مع سلطات إنفاذ القانون المحلية التي كانت مسؤولة عن التحقيق في وفاة أحمد آربري. وكتب نادلر "ثقة الجمهور في إدارة العدالة العمياء أصبحت محل اختبار حقيقي بعد حوادث قتل تعرض لها أميركيون من أصل أفريقي".
من جهتها، نددت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ميشيل باشليه بمقتل فلويد، داعية السلطات الأميركية إلى اتخاذ "خطوات جادة" لوضع حد لحوادث قتل أميركيين من أصول أفريقية. وقالت باشليه في بيان، إنّ ما جرى هو آخر حدث في "سلسلة عمليات قتل طويلة لأميركيين من أصول أفريقية على يد أفراد الشرطة ومن يلجأون إلى تطبيق القانون بأنفسهم... يتوجب على السلطات الأميركية وضع حد لعمليات القتل هذه".