بغضّ النظر عن مآلات جولة التصعيد الحالية بين فصائل قطاع غزة وإسرائيل، فإنها تحمل في طياتها فرصة لإحداث تحوّلٍ على بيئة العلاقة بين الاحتلال والمقاومة في القطاع، إما لجهة التوافق على مسار تهدئة طويل الأمد أو التمهيد لمواجهة شاملة. وقد بدأ ذلك بإعلان فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، أمس الخميس، انتهاء جولة التصعيد الأخيرة مع إسرائيل، مؤكدة أنها ردّت على جرائم العدو. وقال مصدر مسؤول في غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية، إن "جولة التصعيد مع الاحتلال انتهت، المقاومة ردت على جرائم العدو، والتطورات الميدانية مرتبطة بسلوك الاحتلال". وأضاف: "تعتبر فصائل المقاومة أن هذه الجولة من التصعيد قد انتهت من طرفها وأن استمرار الهدوء مرتبط بسلوك الاحتلال".
ففي حال قبلت إسرائيل إعلان الفصائل انتهاء جولة التصعيد الحالية، فإن هذا قد يمهد الطريق أمام تغيير بيئة العلاقة بين المقاومة وإسرائيل، على اعتبار أن قبول تل أبيب أن تحدد المقاومة توقيت انتهاء جولة التصعيد، يعني تسليماً منها بتكريس قواعد الاشتباك الجديدة التي تصر المقاومة على فرضها والتي تقوم على الرد على كل عدوان إسرائيلي.
في هذا السياق، يندرج تحذير منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط، نيكولاي ملادينوف، من أنه "إذا لم يتم احتواء التصعيد الحالي بين غزة وإسرائيل على الفور، فإن الوضع يمكن أن يتدهور بسرعة مع عواقب مدمرة لجميع الناس". وأضاف ملادينوف، في بيان: "أشعر بقلق عميق إزاء التصعيد الأخير في أعمال العنف بين غزة وإسرائيل، خصوصاً من خلال الصواريخ المتعددة التي تُطلق باتجاه المجتمعات في جنوب إسرائيل (جنوب فلسطين المحتلة)"، في انحياز لافت من المسؤول الأممي إلى الرواية الإسرائيلية، رغم اعتراف جنرالات من دولة الاحتلال أن تل أبيب هي من بادرت إلى القصف عصر الأربعاء، وهو ما استدعى ردّ الفصائل المسلحة برشقات الصواريخ على مستوطنات "غلاف غزة". وأضاف: ملادينوف "سنواصل العمل الجاد لضمان عودة غزة من حافة الهاوية، ومعالجة جميع القضايا الإنسانية، وأن الجهود التي تقودها مصر لتحقيق المصالحة الفلسطينية الداخلية تنجح".
ويفترض أن يكون المجلس الوزاري المصغّر لشؤون الأمن قد قرر في اجتماعه مساء أمس الخطوة المقبلة لإسرائيل بناءً على المشاورات الأمنية التي عقدت ظهر أمس الخميس وشارك فيها أيضاً كل من وزير الحرب أفيغدور ليبرمان، ورئيس هيئة أركان الجيش غادي أيزنكوت، ورئيس جهاز الاستخبارات الداخلية "الشاباك" نداف أرغمان. وقد استبق عدد من الوزراء جلسة المجلس الوزاري المصغر بالدعوة للتصعيد ضد حماس بهدف استعادة الردع في مواجهتها، كما فعل كل من وزيرة القضاء إيليت شاكيد ووزيري الاستخبارات والأمن الداخلي يسرائيل كاتس وجلعاد أردان.
في الوقت ذاته، فإن كوابح التصعيد لدى إسرائيل لا تزال كبيرة ومؤثرة، بسبب حالة انعدام اليقين السائدة على الجبهة الشمالية. وهذا ما دفع الجنرال يعكوف عامي درور، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق للدعوة لتطويق التصعيد مع حماس خشية أن يؤثر على استعدادات تل أبيب لمواجهة أي احتمال بانفجار الأوضاع في الشمال.
إلى جانب ذلك، فإن إسرائيل تعي أنه لا توجد أهداف استراتيجية يمكن تحقيقها من خلال انفجار مواجهة شاملة مع حماس، على اعتبار أن مثل هذه المواجهة يمكن أن تقود إسرائيل لإعادة احتلال القطاع. وفي حال تحقق هذا السيناريو، سيكون أمام تل أبيب خياران، أحلاهما مر. فإما أن تتورط في القطاع لمدة طويلة، مع كل ما ينطوي عليه الأمر من تحمل أعباء أمنية، سياسية، واقتصادية؛ أو أن تنسحب من القطاع لتعمّ الفوضى في المكان. ومن الواضح أن إسرائيل ستخسر في الحالتين حكم حركة حماس، الذي يمثل حالياً عنواناً سلطوياً يسمح لها باستخدام أوراق الضغط ضده لتحمل المسؤولية عن القطاع وضبط الأوضاع الأمنية.
لكن بغض النظر عن مآلات جولة التصعيد الحالية، فإن هذه الجولة مغايرة لسابقاتها من الجولات، ليس فقط بسبب اتساع رقعة الأهداف التي حاول كل طرف المس بها، بل أيضاً لأن انفجار هذه الجولة تزامن مع وصول الجهود الهادفة للتوصل لمسار تهدئة طويلة إلى نقطة مفصلية.
إلى جانب ذلك، فإن هذا التصعيد جاء في ظل عدم تردد بعض الأوساط القيادية من حركة حماس في إبداء عدم ارتياحها من سلوك الوسيط المصري، بعدما انقلب على الورقة الأصلية التي أعدتها الاستخبارات المصرية، وضمنتها مقترحات لتطبيق المصالحة مع حركة فتح، وقدمت بدلاً منها ورقة معدلة جديدة، ترى حماس أنها تمثل تبنّياً حرفياً "لإملاءات" رئيس السلطة محمود عباس. ومما دل على انعدام الثقة بالجانب المصري حقيقة أن غرفة العمليات المشتركة الممثلة لحركات المقاومة في القطاع قد أعلنت من جانب واحد عن انتهاء جولة التصعيد مع الاحتلال، وليس نتاج تدخل الوسيط المصري.
في الوقت ذاته، فإن جولة التصعيد الأخيرة أحرجت الائتلاف الحاكم في تل أبيب أمام الجمهور الممثل للقاعدة الانتخابية للأحزاب المشاركة فيه. فالمدن والبلدات والقرى الزراعية المنتشرة في منطقة النقب تعد معاقل التأييد البارزة لليمين الإسرائيلي، علاوة على أن الأغلبية الساحقة من رؤساء البلديات والمجالس المحلية في المنطقة ينتمون لحزب الليكود، الذي يقوده نتنياهو.
ونظراً لأن تقديرات في إسرائيل ترجح تبكير موعد الانتخابات التشريعية وتنظيمها في الخريف أو الشتاء المقبل، فإن هذا يزيد من إحراج نتنياهو ووزرائه. وتكمن المفارقة أن التصعيد والتهدئة في مواجهة حماس يحملان في طياتهما احتمالات تهدد فرص حزب الليكود بمواصلة الحكم. فإجراء الانتخابات التشريعية على وقع التصعيد مع حركة حماس سيدل للناخب الإسرائيلي على أن الحكومة الحالية لم تتمكن من توفير الأمن. وفي حال تم التوصل لتهدئة، فإن هذا سيلزم إسرائيل بالموافقة على إحداث تحول على الواقع الاقتصادي والإنساني في القطاع من خلال تدشين مشاريع إعادة إعمار وبنى تحتية.
لكن الرأي العام في إسرائيل وكذلك معظم وزراء حكومة نتنياهو يشترطون الموافقة على إعادة إعمار قطاع غزة بإنهاء ملف الأسرى الإسرائيليين لدى حماس، في حين أن حكومة اليمين المتطرف في تل أبيب غير مستعدة حتى الآن لدفع الثمن الذي تطالب به حماس في إطار أية صفقة تبادل أسرى. من هنا، فإنه في حال لم تتجاوز حكومة تل أبيب اعتبارات السياسة الداخلية وتوافق على مسار تهدئة يضمن تغيير البيئة الاقتصادية والإنسانية في القطاع، فإن جولة التصعيد الحالية لن تكون الأخيرة.