لبنان: موجة ثانية من انتفاضة 17 أكتوبر

16 يناير 2020
متظاهرون ضد المصارف مساء الثلاثاء (حسين بيضون)
+ الخط -
تأكد في العاصمة اللبنانية بيروت في اليومين الماضيين أن انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لم تنتهِ ولم تكن "موجة عابرة" كما وصفتها أحزاب السلطة، بفعل تنامي موجة الغضب في الشوارع من جهة، وضد المصرف المركزي، بقيادة الحاكم رياض سلامة من جهة ثانية، ليطلق كثر على ما يجري "الموجة الثانية" من الانتفاضة. حتى أن ممثل الأمم المتحدة في لبنان، يان كوبيتش، أبدى قلقه على البلاد أكثر من قادتها أنفسهم بعد تغريدات له، أمس الأربعاء، جاء فيها أن "على السياسيين اللبنانيين لوم أنفسهم على الفوضى الخطرة بالبلاد بدل لوم المواطنين"، معتبراً أن "المسؤولين اللبنانيين يتخذون موقف المتفرج على حالة الانهيار في البلاد". 
وبات واضحاً بفعل طبيعة الاحتجاجات في الأيام الماضية أن الموجة الثانية من الغضب الشعبي ستكون أشرس من سابقتها، بفعل التدهور الاقتصادي المتسارع وانهيار سعر الليرة أمام الدولار وما يترتب على كل ذلك من اتساع دائرة اللبنانيين الذين باتوا عاجزين عن تأمين احتياجاتهم اليومية. 
وتجددت مساء الأربعاء المواجهات بين القوى الأمنية والمحتجين في بيروت تحديداً في
الشوارع المحيطة بثكنة الحلو، التي نُقل إليها عشرات الموقوفين منذ ليل الثلاثاء عقب الاعتقالات التي جرت في شارع الحمرا في بيروت، على مقربة من المصرف المركزي والتي تخللها تحطيم واجهات عدد من المصارف.
وشهد محيط الثكنة توتراً أمنياً، لا سيما بعدما تعمدت العناصر الأمنية الاعتداء على المتظاهرين، ما تسبب في سقوط أكثر من أربعين إصابة توزعت على المستشفيات. كما سُجلت عشرات حالات الاختناق بسبب كثافة الغاز المسيل للدموع الذي أطلق لتفريق المحتجين. وتم اعتقال العشرات والاعتداء عليهم بالعصي والركلات. كذلك تعمدت العناصر الأمنية الاعتداء على الصحافيين لمنعهم من نقل انتهاكاتها بحق المحتجين، ما دفع الصحافيين إلى الدعوة لوقفة احتجاجية أمام وزارة الداخلية الخميس.

وجاءت التطورات الأربعاء بعدما كانت منطقة الحمرا قد شهدت ليلة قاسية، مساء الثلاثاء بعد الاشتباكات التي اندلعت بين المتظاهرين والقوى الأمنية أمام المصرف المركزي. وأوقفت القوى الأمنية 59 شخصاً، وأحالتهم إلى ثكنة في بيروت، أطلق عدد منهم ليل الأربعاء الخميس.
كما كشفت وكالات أنباء محلية عن بروز توجّه لدى المصارف بإقفال الفروع الموجودة في مناطق معرّضة للإشكالات الأمنية. وانتقدت جمعية مصارف لبنان، أمس الأربعاء، ما وصفته "بالتباطؤ الكبير وغير المسؤول" في تشكيل حكومة جديدة. وذكرت الجمعية، في بيان لها، أن القطاع المصرفي "يبذل ما في وسعه في سبيل المحافظة على ما تبقى من اقتصادنا الوطني" وأن التأخير في تشكيل حكومة جديدة "يضع المصارف في الواجهة وكأنها المسؤولة عن تردي الاوضاع الحاصلة". وانتقد بري ما جرى في الحمرا، معتبراً أن "ما حصل غير مقبول ولا أتهم به أشخاصاً معنين ولا أتهم الحراك المدني لأن ما حصل مستهدف ومقصود والمرتكبون غير معقولين فهل يريدون تدمير البلد؟". وأشار إلى أن "القوى الأمنية أوقفت 59 شخصاً"، متمنياً أن "يأخذ التحقيق مجراه أياً كان انتماء الموقوفين، لأن هؤلاء لا علاقة لهم بالحراك".

وازدادت وتيرة الغضب الشعبي من القطاع المصرفي بفعل السياسات المعتمدة من الحاكم رياض سلامة بغطاء من النظام اللبناني، خصوصاً في سياق قوننة حركية ودائع الزبائن ورواتبهم التي يتلقونها عبر المصارف، والتلاعب في سعر صرف الدولار، فضلاً عن ارتفاع أسعار السلة الغذائية بشكل كبير، من دون وجود سياسة لوقفها أو مكافحتها. وترافق ذلك مع فقدان العديد من التجهيزات الطبية ومنها أكياس الدم.

في المقابل، بدت السلطة عاجزة عن تقديم الحلول الناجعة للتشكيل الحكومي، بعد التوافق بين أركان قوى 8 آذار (حزب الله، التيار الوطني الحرّ، أمل) على تسمية حسان دياب رئيساً للحكومة، في 19 ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وعشية الشهر الأول من تسميته، فشل دياب في فرض رؤيته في تشكيل حكومة اختصاصيين فحسب، بفعل تدخّلات رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ورئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، الذين سعوا للمشاركة بصورة أو بأخرى في الحكومة العتيدة.

وبدا واضحاً منذ البداية أن دياب أمام تحديات عدة، بدءاً من فقدانه الغطاء الميثاقي السني، سواء نيابياً أو معنوياً، وصولاً إلى الشروط التي كبّلته، وما بينهما من تناقضات في المواقف السياسية. باسيل مثلاً، كان مستعداً لإعلان "معارضته"، مع العلم أن والد زوجته، ميشال عون، هو رئيس الجمهورية. ناقش باسيل، أمس الثلاثاء، مع بري الموضوع الحكومي، ليعود عن قرار عدم المشاركة في الحكومة، تحت شعار "سنتحمّل المسؤولية". أما جنبلاط فكان أسير التناقضات الجمّة. من جهة، حاول المشاركة في الثورة لـ"إسقاط العهد" بحسب رغبته، ثم تراجع عن هذا الهدف مع "تأييد الثورة"، قبل أن يرفض دخول الثوار إلى منطقة بعقلين في قضاء الشوف، (جبل لبنان)، معتبراً أن لـ"المنطقة حيثية درزية اشتراكية". تناقض جنبلاط ظهر في الملف الحكومي، برفضه المشاركة في "أي حكومة لا يشارك فيها (رئيس الحكومة المستقيل سعد) الحريري"، غير أنه رفع الصوت للمطالبة بالتمثّل في حكومة دياب تحت شعار "الحصة الدرزية".

من جهة رئيس المجلس النيابي، فإن بري عمل على خطين: خط استيعاب الانتفاضة الشعبية، سواء بمحاولة الانحناء السياسي أمام الموجة، أو بمحاولة الحفاظ على مواقع متقدمة في التشكيل الحكومي برفقة حزب الله. حتى أن المحسوبين على بري كانوا من ضمن عناصر قوى 8 آذار التي اعتدت على المتظاهرين في صيدا وصور والنبطية وبنت جبيل وكفررمان (جنوب لبنان)، وبعلبك والهرمل (شرق لبنان)، والمتن وبعبدا (شمال بيروت)، طيلة الأيام الـ91 للانتفاضة. 



أما رئيس الجمهورية، فبدت مواقفه متبدلة أكثر من مرة. في البداية أيّد الانتفاضة أكثر من مرة، وطلب من المنتفضين مواصلة ضغطهم لأنهم "يساعدونه في تحقيق ما يرغب من إصلاحات"، قبل أن يتراجع ويرفض استمرارها، معتبراً في كلمة له أمام أعضاء السلك الدبلوماسي ومديري المنظمات الدولية، أمس، أن محاولات استغلال بعض القوى السياسية وبعض وسائل الإعلام للتحركات الشعبية "حرف بعض الحراك عن تحديد مكامن الفساد الحقيقي وصانعيه بصورة صحيحة".

بدوره، كان الحريري، الساعي للعودة إلى رئاسة الحكومة، عبر التوافق السياسي الاعتيادي في لبنان، رغم الحالة الاقتصادية السيئة، قد إدان ما سماها "الهجمة التي تعرّض لها شارع الحمرا (في بيروت) غير مقبولة تحت أي شعار من الشعارات، وهي هجمة لا أريد تحميلها لثورة الناس وغضبهم تجاه المصارف، ولكنها كانت لطخة سوداء في جبين أي جهة أو شخص يقوم بتبريرها وتغطيتها". وفي معرض دفاعه عن المصارف وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة، اعتبر أنه "إذا كان المطلوب تكسير أسواق وأحياء بيروت على صورة ما جرى في الحمرا وعلى صورة ما جرى في السابق في وسط بيروت، فإنني من موقعي السياسي والحكومي والنيابي، لن أقبل أن أكون شاهد زور على مهمات مشبوهة يمكن أن تأخذ كل البلد إلى الخراب".