محاكمة قاتل الشريف... "الاستثناء" الإسرائيلي الذي يدل على القاعدة

27 يوليو 2016
أزاريا بعدما أخلت المحكمة سبيله في أبريل الماضي(فرانس برس)
+ الخط -
لا تزال إسرائيل ووسائل الإعلام فيها منشغلة، منذ مطلع الأسبوع الحالي، بملف محاكمة الجندي القاتل، اليئور أزاريا، الذي أعدم في مارس/ آذار الماضي، الفلسطيني عبد الفتاح الشريف في الخليل. وتبدو إفادة الجندي المذكور أمام المحكمة العسكرية في يافا والتحقيق المضاد معه من قبل النيابة العسكرية، تجسيداً لحالة "استثناء إسرائيلية"، يبدي فيها الإعلام العبري الرسمي، والنيابة العسكرية العامة، نوعاً من الإجماع على إدانة الجندي القاتل، ليس بتهمة القتل المتعمد، وفق ما كانت النيابة العسكرية أعلنت عنه، بما أنّ الجريمة ارتكبها الجندي بحق الشريف عندما كان الأخير مصاباً وملقى على الأرض، ولا يشكل خطراً على أي من جنود الاحتلال، إنما بتهمة استخدام السلاح خلافاً لصلاحياته الرسمية والقتل غير المتعمد. توليفة قانونية توحي بأن العقاب المرتقب على جريمة القتل سيكون مخففاً للغاية ربما، على الرغم من أن الشواهد على الأرض والتصريحات الأولية التي نقلها شهود عيان أمام المحققين العسكريين، تؤكد فداحة الجريمة بما أن القاتل قال بعد إعدام الشريف: "كان يجب أن يموت، لقد طعن رفيقي".


وحمل مثول الجندي القاتل منذ يوم الأحد أمام المحكمة للإدلاء بشهادته، تطوراً واحداً مثيراً، ليس في مستوى الحقائق الخاصة بالجريمة، وإنما في الجرأة التي أبداها الجندي القاتل بالإعلان من على منصة المحكمة، بأن موقف رئيس أركان الجيش، الجنرال غادي أيزنكوط، ووزير الأمن السابق، موشيه يعالون، وقادته الميدانيين المباشرين، ومنهم قائد سريته العسكرية وقائد الكتيبة، خانوه عملياً بوقوفهم العلني ضد جريمته وإعلانهم أنه أطلق النار بالرغم من أن الشريف لم يشكل خطراً، وبالتالي فإنه خالف الأوامر والقيم العسكرية للجيش الإسرائيلي. ولم يكتف الجندي القاتل بذلك، بل أضاف قائلا إنهم "رموه للكلاب" لتبييض صفحة الجيش وصفحتهم وجعله كبش فداء من أجل تحقيق ذلك.


ومع أن أقوال الجندي هذه فسرت في إسرائيل على أنها ناجمة عن توصيات ونصائح محاميه الذين يدافعون عنه، مع إضافة تفاصيل جديدة، طلب منه الإفصاح عنها، مثل ادعائه مثلاً أن قائده المباشر قام بصفعه فور إطلاق النار على الشريف، فإن الواقع يفيد بأن هذا التصريح بالذات هو الأخطر عملياً من بين كل ما قاله الجندي القاتل، وقد يكون صحيحاً، لأنه يتماشى عملياً مع السياسة الرسمية في جيش الاحتلال، التي تختصر بالإعلان عن التحقيق في ملابسات سقوط الشهداء الفلسطينيين، ثم القول لاحقاً إن التحقيق أظهر أن الجنود قاموا بإطلاق النار "وفق القانون والأصول"، وهو ما يبدو كان سيحدث في ملف الشهيد الشريف، لولا وجود مصور فلسطيني من مدينة الخليل سارع إلى الوصول بعد سماع أصوات الرصاص، وقام بتوثيق جريمة الإعدام التي وقعت بعد نحو ربع ساعة من إطلاق النار الأول على الشريف، وعلى رفيقه رمزي القصراوي الذي استشهد على الفور.

كاميرا المتطوع الفلسطيني في منظمة "بتسيلم" عماد أبو شمسية، هي التي قلبت المجرى "الطبيعي" لملف الشريف. فلولا توثيق الجريمة، ربما لظلّ الاتجاه العام للملف يسير وفق جوهر البيان الذي اعتبر أن "الجنود اتبعوا أوامر إطلاق النار"، قبل أن يضطر أيزنكوط، وموشيه يعالون، وحتى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى إدانة جريمة الإعدام والقول إنها لا تمثل قيم جيش الاحتلال. وكان واضحاً أن هدف القادة العسكريين للجيش ونتنياهو أيضاً من وراء الإدانة الأولى، هو امتصاص أي نقمة دولية على جريمة الإعدام، وتفادي سلسلة إدانات خارجية لمجمل سياسة الإعدام التي تتبعها إسرائيل في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية، وخصوصاً أن قادة الجيش ووزراء في حكومة إسرائيل، ومنذ العام 2014، لا يتوقفون عن إصدار تصريحات تدعو إلى أنه "لا يجوز أن يخرج منفذ أي عملية حياً وأنه يستحق أن يموت فوراً". تصريحات بالجملة سبق أن خرجت عن عدد من الوزراء، بدءاً بوزير الأمن الداخلي السابق يتسحاق أهرونوفيتش، الذي دعا عند موجة عمليات الدهس والطعن في القدس المحتلة عام 2014 إلى إطلاق النار بهدف القتل، مروراً بدعوة وزير الأمن الداخلي الحالي، جلعاد أردان، للمدنيين الإسرائيليين ممن يحملون السلاح المرخص ومن خريجي الوحدات القتالية في جيش الاحتلال، إلى حمل سلاحهم في كل مكان، وهو ما رسخ حالة تحريض تحث على إطلاق النار بهدف القتل باتجاه كل فلسطيني يحاول تنفيذ عملية ضد أهداف إسرائيلية.




ولعل هذه الثقافة والحالة التي أشاعتها الحكومة الإسرائيلية إلى جانب التقليد السائد في الجيش بعدم محاكمة الجنود الذين يطلقون النار على الفلسطينيين بهدف القتل، وإيجاد مبررات لعمليات القتل، هي التي دفعت بالجندي القاتل إلى القول إن قادته قد خانوه في وقوفهم ضده. والواقع أن عدداً من عمليات الإعدام المشابهة قد وقعت في الفترة السابقة لإعدام الشهيد عبد الفتاح الشريف، بأسابيع بل وحتى أيام معدودة، خرج منها القتلة من دون أي عقاب، بل تبيّن مثلاً أن الشرطة الإسرائيلية أوصت بمنح وسام تقدير لمتطوع إسرائيلي في صفوفها قام بإعدام الشهيد بشار محمد مصالحة في يافا بتاريخ 8 مارس/ آذار. حينها، كشفت أشرطة فيديو من الموقع أن المتطوع أعدم مصالحة بالرغم من أنه كان هو الآخر مصاباً، ولا يشكل خطراً على أحد، وقد وقعت جريمة الإعدام هذه قبل أقل من ثلاثة أسابيع من إعدام الشريف. زيادة على ذلك، تبيّن أن قيادة الجيش لم تحاسب على الإطلاق قائد "وحدة بنيامين"، العقيد يسرائيل شومر، الذي أعدم فتى فلسطينياً هو محمد هاني الكبسة، في يوليو/ تموز من العام الماضي، رغم توفر أدلة وشهادات بأنه أطلق النار على الكبسة بعدما كان الأخير قد فر من أمامه، ولم يكن يشكل خطراً عليه. وتكرر الأمر في ملابسات استشهاد الفلسطينية مرام إسماعيل مصالحة (23 عاماً)، وشقيقها إبراهيم (16 عاماً)، اللذين قُتلا عند حاجز قلنديا بدم بارد ولم تتم محاسبة الجنود أيضاً. من هنا، يمكن الخلوص إلى أن القاعدة عند الاحتلال هي القتل وعدم محاكمة القاتل، بالتالي فإن محاكمة اليئور أزاريا هي الاستثناء الذي يدلّ على القاعدة، قاعدة الإعدامات الميدانية كسلاح رادع في وجه الانتفاضة.

يبقى أن محاكمة القاتل تحمل بعداً آخر، وهي تتعلق أولاً بتراجع نتنياهو عن تصريحه الأول، واتجاهه لاحقاً إلى الاتصال بوالد الجندي القاتل، بعد أقل من أسبوع من الجريمة، وإعلان تعاطفه مع "المحنة التي تعيشها عائلة الجندي المذكور، داعياً إياه إلى الركون إلى "عدالة وإنصاف الجهاز العسكري والقضاء العسكري". وقد كرر نتنياهو قبل يومين، في لقائه مع المراسلين العسكريين، بأنه يصر على موقفه هذا، ولا يتراجع عنه، قائلاً: "قد نكتشف أشياء جديدة وما نعرفه عن الحادثة ليس محكماً للغاية".


ويثير تصريح نتنياهو الأخير وما سبقه، تساؤلات بشأن الرسالة التي مررها لوالد الجندي القاتل، والتي يتضح اليوم أنها طمأنة إلى أن ابنه لن يحاكم بجريمة القتل المتعمد. وقد حدث هذا بعدما تراجعت النيابة العسكرية، تحت ضغط اليمين الإسرائيلي والقضاة العسكريين أنفسهم، عن بند القتل المتعمد والاكتفاء بتهمة القتل غير المتعمد، بفعل "تجاوز الصلاحيات". واليوم، بعدما ضمنت النيابة العسكرية توجيه تهم مخففة، فإن إسرائيل وجيشها، ضمنا عملياً حماية الجندي القاتل، وجنود آخرون قد تتم محاكمتهم بتهم مخففة أمام القضاء العسكري، بهدف تأمين حصانة تلغي احتمال تقديم شكاوى ضد هؤلاء الجنود (الذين تجري محاكمتهم في إسرائيل) أمام محكمة جرائم الحرب الدولية، لأن إسرائيل يمكنها عندها التعلل بأنها، وبحسب بروتوكول روما بشأن جرائم الحرب، قد قامت بما هو ملقى على عاتقها باعتبارها القوة الحاكمة، وقدمت الجنود للمحاكمة وأصدرت أحكاماً بحقهم، وبالتالي لا يجوز، بحسب بروتوكول روما إياه، تسليمهم لمحاكمتهم من جديد أمام محكمة الجنايات الدولية.