يوم أعفى العاهل المغربي، الملك محمد السادس، رئيس الحكومة المكلف السابق، عبد الإله بنكيران من مهامه، في الخامس عشر من مارس/آذار الماضي، تكون صفحة رئيسية من المسار السياسي لهذه الشخصية، التي شغلت المغاربة لأكثر من خمس سنوات، قد طُويت.
بنكيران، الذي ولد في حي العكاري الشعبي في الرباط في العام 1954، استطاع أن يخلق ظاهرة سياسية وتواصلية بامتياز في تاريخ المغرب المستقل، إذ تمكن من خلق "أجواء جديدة" في المشهد السياسي. وبحسب العديد من المحللين والمراقبين، فإنه لم يمر في تاريخ الحكومات المغربية رئيس وزراء (رئيس حكومة بالتسمية الجديدة وفق دستور 2011)، شخصية أثارت كل هذا الجدل والسجال السياسي بين مؤيد ومنتقد للرجل.
ورغم النقاش والسجال الذي واكب بنكيران كرئيس للحكومة لمرتين متتاليتين، بعد فوز حزب العدالة والتنمية الذي يقوده في الانتخابات البرلمانية في 2011 و2016، وسواء اتفق معه الشخص أو عارض اختياراته، فإن الشيء الذي يكاد يتفق الجميع عليه هو أنه وسم الحياة السياسية في البلاد بقوة. "وحش سياسي... ظاهرة سياسية... حالة تواصلية... نظيف الذمة... مخادع... بكاء يستدر عواطف الناس"، كلها نعوت وصفات انهالت على رأس بنكيران طيلة السنوات الخمس التي قضاها في رئاسة الحكومة، وبعد ذلك أيضاً. ولم تخف وتيرة الأوصاف إلا بعد أن أعفي من طرف الملك.
وفي صف المؤيدين للرجل، فإن بنكيران أعاد للسياسة معناها الحقيقي، والمرتبط بالتواجد قرب المواطنين، والحديث بلسانهم، والسير في أسواقهم، وتناول طعامهم، والنأي عن "لغة الخشب" التي كان غيره يبرع فيها قبله. ويحسب لبنكيران أنه "صالح" قطاعاً عريضاً من المغاربة مع الشأن السياسي. وبات العديد من الشباب يهتمون بأحداث السياسة ومستجدات الحكومة، كما أن جلسات البرلمان أضحت تحظى بمتابعة أكبر، بفضل حضوره الجلسات الشهرية. ويعزو متابعون للظاهرة "البنكيرانية" هذه التحولات التي طرأت على علاقة المواطنين بالمشهد السياسي في المغرب، إلى طريقة زعيم "العدالة والتنمية" ورئيس الحكومة المعفى في التعاطي مع الناس، وفي عفويته وصراحته التي جرت عليه في كثير من الأحيان غضب "جهات عليا".
ورغم محاولات بنكيران في كل مرة إظهار أنه لم يأت لمنازعة السلطان في الحكم، باعتبار أنه مجرد "موظف عند الملك"، وبأن الملك هو من يحكم، ورغم أنه لم يستثمر كافة صلاحيات الدستور التي منحها إليه كرئيس للحكومة، إلا أن كل ذلك لم يشفع لبنكيران أمام الملك. ورفع العاهل المغربي في وجه بنكيران "الفيتو"، وانتقده في خطاب رسمي في يوليو/تموز 2016، بعد أن صرح بأنه "داخل المغرب هناك دولتان"، فاتهمه بإطلاق تصريحات تسيء إلى المؤسسات، قبل أن "يعاقبه" بالإعفاء عندما فشل في تشكيل الحكومة لمدة تجاوزت 5 أشهر. وارتفعت أسهم بنكيران أكثر، خصوصاً عند مناصريه والمتعاطفين مع تجربة حزب العدالة والتنمية في الحكومة، عندما "صمد" أمام ممارسات الدولة العميقة، بحسب تعبيرهم، طيلة شهور من شد الحبال، وعرقلة مشاورات تشكيل الحكومة، ورفضه لاشتراطات زعيم حزب الأحرار، عزيز أخنوش، ومن معه من أحزاب.
وفي الجهة المقابلة، هذا الذي يسميه البعض صموداً كان بطله بنكيران أمام "الدولة العميقة" طيلة خمسة أشهر ونيف، اعتبره آخرون هدراً للزمن السياسي، وتعطيلاً للمؤسسات الدستورية، مثل البرلمان والحكومة، ما استدعى قراراً صارماً من أعلى سلطة في البلاد، تمثل في إعفاء بنكيران. وأما ما يراه البعض عفوية عند بنكيران طيلة سنوات قيادته للحكومة وإلى حدود إعفائه، وما وجده البعض قرباً من المواطنين الفقراء والتحدث بلسانهم والسير في أسواقهم وتناول طعامهم، فيعتبره آخرون شعبوية وكسباً للأصوات الانتخابية لا غير.
وأما مسألة "الشعبية الكاسحة"، التي يقول البعض إنها من أسباب "الفيتو" السياسي الذي رُفع ضد بنكيران، فيرد عليه الطرف الثاني بأنه لو كان للرجل شعبية جارفة لتصدر حزبه الانتخابات بغالبية تتيح له تشكيل الحكومة من دون الحاجة إلى أحزاب أخرى وضعت له "العقدة في المنشار"، ودفعته إلى ارتكاب أخطاء في مفاوضات تشكيل الحكومة، انتهت بالإعفاء الملكي. ورغم أن التاريخ لا يعيد نفسه، فإن الأمس يكاد يشبه اليوم، فإعفاء بنكيران لم يكن سابقة في تاريخ الحكومات المغربية منذ استقلال المملكة، إذ سبقه إلى نفس المصير، مع فوارق الزمن والسياسة، الزعيم عبد الله إبراهيم الذي تم إعفاؤه سنة 1960 بعد أن خشيت الدولة حينها فوزاً كاسحاً لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.