لبنان: مأزق أحزاب السلطة بعد الانتفاضة واستقالة الحكومة

31 أكتوبر 2019
فوجئت السلطات بكثافة المنتفضين (حسين بيضون)
+ الخط -
في اليوم الـ13 على الانتفاضة اللبنانية التي بدأت في 17 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، أعلن رئيس الحكومة، سعد الحريري، أول من أمس الثلاثاء استقالته، رافضاً التجاوب مع جميع الضغوط السياسية التي مورست عليه مباشرة، أو في الشارع من خلال منح مناصري حركة أمل وحزب الله الضوء الأخضر لشن اعتداءات منظمة على المحتجين وإحراق خيم الاعتصام في ساحتي رياض الصلح والشهداء قبل أن يتبين أن استعراض القوة لم يتجاوز مفعوله سوى ساعات بعدما عاد المحتجون إلى الشوارع، فيما اضطر رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي سربت أوساطه الثلاثاء أنه يتريث في قبول استقالة الحريري إلى الموافقة عليها أمس الأربعاء مكلفاً الحكومة الاستمرار في تصريف الأعمال ريثما تُشَكَّل أخرى جديدة.

وجاءت استقالة الحريري لتكسر الكثير من الأعراف، لكونها الأولى من نوعها في تاريخ البلاد، إذ سقطت حكومات لبنانية سابقاً بفعل ضغوط سياسية، وإن اقترنت بتحرّكات شعبية، أما استقالة الحريري فكانت مغايرة لأنها أتت على الرغم من تمسّك جميع الأطراف السياسية بها.
ضربت الاستقالة التفاهمات المعقودة بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل من جهة، وبين الأخير وحزب الله من جهة أخرى، لا سيما أن الأمين العام للحزب حسن نصر الله خرج قبل أيام معلناً عن "لاءاته الثلاث": لا إسقاط لهذه الحكومة، لا لإسقاط العهد، لا لانتخابات نيابية مبكرة. كذلك أثرت الاستقالة على مصالح الأطراف الأخرى.

ويفسح قبول الاستقالة المجال أمام بدء البحث عن حكومة جديدة. صحيح أن صيغتها النهائية لا تبدو واضحة وتتضمن سيناريوهات عدة، لكن الأكيد أنها لن تكون سياسية بالمطلق، لأنها ستؤدي إلى مزيد من الضغوط الشعبية.

ووسط ترجيحات بأن تكون الحكومة المقبلة حكومة تكنوقراط أو تكنوقراط مطعّمة بسياسيين، إلا أن الوضع لن يكون سهلاً. التيار الوطني الحرّ متمسك برئيسه جبران باسيل في أي حكومة. وكان عون وباسيل فضّلا أن يعلن الحريري استقالته على أن يجرى تعديل وزاري يطيح باسيل. كذلك تصرّ حركة أمل على ضرورة وجود وزير المالية علي حسن خليل في أي تشكيلة جديدة، أما الحزب التقدمي الاشتراكي، فلا يرى غير وائل أبو فاعور وزيراً دائماً في كل الحكومات. لكن تمسك هذه الأطراف بوزرائها، لا يعني موافقتها على بقاء وزراء القوى السياسية الأخرى، وهو ما يرجّح أن يكون الفراغ سيد الموقف حتى إشعار آخر، في ظلّ أزمة مالية كبيرة، بدأت تخنق لبنان، مرفقة بانخفاض التقييم الدولي للبلاد، وبكلام حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، لقناة "سي أن أن" الأميركية، عن أن "الوضع المالي إلى انهيار خلال أيام".
مع العلم أن الفراغ في حال حصل، سيؤدي إلى أن تطول مدة حكومة تصريف أعمال، كما جرى بين 25 مايو/أيار 2014 حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2016. يومها استقالت حكومة الرئيس تمام سلام، بعد انتهاء عهد رئيس الجمهورية ميشال سليمان ولم يتم انتخاب خلف له، بسبب تعطيل حزب الله والتيار الوطني الحرّ الجلسات النيابية، حتى تأمين انتخاب الرئيس الحالي، ميشال عون، لتبقى حكومة تصريف الأعمال عامين ونصف العام. ولذلك فإنه بالنسبة لكثر، لا يبدو هذا المشهد غريباً عن لبنان.

اعتادت أطراف السلطة اللبنانية التعامل مع المحطات المفصلية في لبنان بكثير من الدهاء، بما يسمح بديمومتها لحقبة زمنية أخرى. بدا الأمر واضحاً في عامي 1990 و2005. في المحطة الأولى استجمعت المليشيات المتقاتلة في حرب لبنان (1975 ـ 1990) نفسها وانخرطت في العمل السياسي، متغلغلة عبر أنصارها في بنيان الدولة. في المحطة الثانية، عام 2005، ومع اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، ثم انسحاب الجيش السوري من لبنان، استوعبت أحزاب السلطة المتغيرات وأعادت رسم خريطة بقائها فترة إضافية.

في العام الحالي، تحول الوضع إلى حالة من الفوضى. فالانتفاضة التي صنعها اللبنانيون في 17 أكتوبر، لم تكن سياسية ولا موجّهة، بقدر ما كانت صرخة شعبية للقول "لا" في وجه السياسات الضرائبية والفساد والهدر والاستهتار بحقوق الناس والاستخفاف بهم وبحياتهم. حاولت أحزاب السلطة استيعاب الوضع بداية، لكنها فشلت، بل إن بعضها سعى للانخراط فيها لأسباب سياسية بحتة ولتصفية حسابات محددة.
والثورة التي قامت وُجّهت ضد الائتلاف الحاكم، الذي يضمّ أساساً السداسي؛ التيار الوطني الحر، تيار المستقبل، حزب الله، حركة أمل، الحزب التقدمي الاشتراكي، القوات اللبنانية، اختلفت طرق تعامل كل طرف مع القضية.

القوات اللبنانية انسحبت بوزرائها الأربعة سريعاً من الحكومة، ليلة 19-20 أكتوبر، بما فُسّر وكأنها محاولة لرئيسها سمير جعجع للمشاركة في الانتفاضة على الرغم من الرفض الشعبي لمحاولات التوظيف السياسي. مع العلم أن جعجع تحديداً "يهوى" الانتفاضات، كما فعلها عسكرياً في الحرب اللبنانية. وهو ما اعتبرته باقي مكوّنات الحكومة "محاولة منه لقطف الثورة". عملياً، كان شعار القوات واحداً هو "استقالة الحكومة وتشكيل أخرى تكنوقراط"، مشدّدة في الوقت عينه على "عدم إسقاط رئيس الجمهورية في الشارع" لاعتبارات "مسيحية"، تنطلق من عدم تحوّل ذلك إلى "سابقة" وفقاً لأدبيات القوات. وهو ما يعني نظرياً قبول القوات بالنظام اللبناني الحالي، الذي دعا المتظاهرون إلى إسقاطه تحت شعار "كلن يعني كلن" (أي جميعهم يعني جميعهم).

أما تيار المستقبل، فإن هول التحولات التي شهدها، ترجم عملياً أمرين: الخلاف الداخلي المستتر في التيار، وعدم مواكبته قواعده الشعبية. في العامل الأول، كان واضحاً أن خروج نادر الحريري من دائرة رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري، شكّل بداية التمايز. نادر الحريري كان رئيس مكتب سعد الحريري، وهو ابن عمّته أيضاً، وصانعاً للتسوية الرئاسية عام 2016 مع رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، التي تُرجمت بانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. كما برز داخل تيار المستقبل أيضاً ابتعاد وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق عن دائرة الحريري، ثم اعتبار القواعد الشعبية نفسها "بعيدة" عن الحريري، أو أنه بعيد عنها. عليه، حاول سعد الحريري التمسك بالحكومة في ظلّ تآكل رصيده، خصوصاً في مناطق نفوذه، في طرابلس وصيدا وعكار. وحده حي طريق الجديدة في بيروت بقي موالياً له. هذا التآكل، شكّل عنصراً هاماً للحريري لإعلان استقالته يوم الثلاثاء الماضي، بغية إعادة الشارع المنتفض ضده إليه. حتى الآن تبدو الأمور ناجحة معه، غير أنها دقّت إسفيناً في علاقته مع التيار الوطني الحر وحزب الله.



بدا التيار الوطني الحر الخاسر الأكبر منذ 17 أكتوبر، على الصعيد الداخلي وفي البيئة الحاضنة له، تحديداً جبل لبنان. بالنسبة إلى التيار الذي يحظى بأكبر نسبة تمثيل سياسية في تاريخ الجمهورية اللبنانية، عبارة عن 29 نائباً من أصل 128 في مجلس النواب، و11 وزيراً من أصل 30 في الحكومة، والممسك بمجلس القضاء الأعلى وقيادة الجيش والجمارك وأمن الدولة، فإن استقالة الحكومة أدت إلى توتر كبير في داخله. فعدا الحالات السابقة، التي أدت إلى خروج الجزء الأكبر ممّا يُسمّى "جيل النضال" من صفوف التيار الوطني الحرّ، وهو الجيل الذي واجه الوجود السوري في لبنان (1990 ـ 2005)، واعتُقل كثر منهم بسبب ذلك، فإن التيار شهد أيضاً حالات فصل وطرد كبيرة، أثّرت سلباً على بنيته. فضلاً عن ذلك، فإن انسحاب النائبين شامل روكز (أحد أصهرة عون، وعلاقته سيئة بصهر عون الآخر، جبران باسيل) ونعمت افرام من كتلة التيار النيابية (تكتل لبنان القوي)، شكّل ضربة مهمة. يعود السبب إلى المنطقة التي يمثلها النائبان، هي منطقة كسروان (شمال بيروت)، والمعروفة بكونها منطقة مارونية مسيحية، كان عون نفسه زعيماً بلا منازع فيها، وكان نوابها الخمسة ينتمون لتيار عون. أما مع انسحاب روكز وافرام، فإن التيار لم يعد ممثلاً سوى بنائبٍ واحد في صفوفه. وروكز كان أحد مفاتيح معارك الجيش اللبناني تحت قيادة عون، في حرب التحرير ضد القوات السورية (1989)، وحرب الجيش ضد القوات اللبنانية (1990). وعلى الرغم من كون اسمه طرح أكثر من مرة كمرشح محتمل لرئاسة الجمهورية وهو ما كان سبباً في توتر علاقته مع باسيل الذي يراه منافساً سياسياً قوياً له، فإن روكز يؤيد قائد الجيش الحالي، جوزيف عون، لرئاسة الجمهورية. كما فشل التيار في تأمين تظاهرات كبيرة داعمة للعهد، مع اعتراض العديد من أنصاره على التعامل الرافض للانتفاضة، على اعتبار أن التيار الوطني الحر نفسه مولود في الشارع. الخسارة الكبيرة سياسياً كانت لوزير الخارجية جبران باسيل، الذي خرج من البوابة الحكومية، وسط تراجع حظوظه الرئاسية في خلافة عون في رئاسة الجمهورية عام 2022.

بالنسبة إلى حزب الله وأمل، فإن ما حصل لم يكن متوقعاً، خصوصاً أن الحزب تحديداً كان مؤيداً لرئاسة الحريري للحكومة، وسط تفاهمات تقضي برفض الحديث عن سلاحه في مقابل تمرير الورقة الإصلاحية التي طرحها الحريري، لـ"إنقاذ البلد من الوضع الاقتصادي المتردي" فضلاً عن تحويل أموال مؤتمر "سيدر"، الذي عُقد في إبريل/نيسان 2018، والمقدّرة بنحو 12 مليار دولار. حزب الله أبدى تعاطفاً مع الثورة في بداياتها، كما أن الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، اعتبر أن الثوار عفويون وغير مموّلين من الخارج، رافضاً تخوينهم، الأمر الذي لم يدم طويلاً وتغيّر في الخطاب التالي لنصر الله الذي حمل رسائل تهديد موزعة في أكثر من اتجاه. وكان ذلك انعكاساً لاستمرار الانتفاضة في المناطق الجنوبية، داخل بيئة حزب الله وحركة أمل خصوصاً في بنت جبيل والنبطية وصور، وفي المناطق البقاعية، تحديداً في الهرمل.

طاولت الانتفاضة مراكز ومقار لحزب الله وأمل على اعتبار أن الفريقين، وعبر نوابهما الـ27، لم يلبيا مطالب الناخبين الاجتماعية. الانتفاضة الشعبية جعلت الثنائي يقوم بردّ فعل عنيف، تجلّى في الاعتداء على المنتفضين جنوباً وبقاعاً، ثم الاعتداء على المتظاهرين يوم الثلاثاء في وسط بيروت، وإحراق خيم الاعتصام في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، مع تغيّر نبرة نصر الله وبدئه باتهام جزء من الثوار بأنهم "مموّلون من الخارج". وحاول الثنائي منع الناس من التصوير، خصوصاً في الهرمل، المعروفة بكونها منطقة محرومة بشدّة. كما باشرت القوى الأمنية في الجنوب والبقاع عملية استدعاء للمنتفضين، لتعكس التحقيقات بحسب ما أكد عدد من المخلى سبيلهم محاولات ترهيب جراء "تجرؤهم" على انتقاد حزب الله وحركة أمل. في المقابل، تغاضت تلك القوى عن عمليات الاعتداء التي مارسها عناصر يتبعون لحزب الله وأمل، واستخدام الأخيرة السلاح والقيام بعراضات مسلّحة وتهديد الناس.

الحزب التقدمي الاشتراكي حاول التعاطي بإيجابية مع الثورة، لكن رئيسه، النائب السابق وليد جنبلاط، اصطدم بكونها موجّهة ضده أيضاً، خصوصاً مع إطلاق مرافق وزير التربية السابق، أكرم شهيّب النار في الهواء، وسط بيروت، في أولى أيام الثورة، ثم الاعتداء على المتظاهرين مرتين في منطقة عاليه (جنوبي شرق بيروت)، مع أن جنبلاط أكد في تغريدات عدة على "ضرورة حماية المتظاهرين". حاول الاشتراكي تدارك الأمر، لكنه فشل في منع الناس من الانتفاض ضده، تحديداً في معاقله البارزة، في بعقلين وكفرحيم (منطقة الشوف، جبل لبنان)، وفي عاليه. ومع أنه دعا لإسقاط العهد الرئاسي، إلا أن جنبلاط تراجع سريعاً عن ذلك، رابطاً مصيره بمصير عون، ورافضاً لمنطق "عزل حزب الله"، في إشارة إلى أنه مستعد للقبول بأي تسوية سياسية.

في المقابل، بدا تيار المردة في منطقة نفوذه في زغرتا (شمال لبنان) غير قادر على التفاعل مع التطورات، إذ إن التظاهرات ضده وصلت إلى عقر داره، لكن رئيس التيار، النائب السابق سليمان فرنجية، ظلّ صامتاً لفترة طويلة، قبل أن يعلن دعمه لعون ولحزب الله. أما حزب الكتائب، الذي يرتبط اسمه بمرحلة ما بين استقلال 1943 وصولاً للحرب اللبنانية، فقد حاول اللحاق بالثورة، مظهراً "حرصه" على الثوار، غير أن المواطنين رفضوا مشاركته.



دلالات
المساهمون