يتواصل الشغور في عدد من السفارات والمواقع الدبلوماسية التونسية منذ أشهر، من دون تبرير لتعطيل تعيين السفراء والقناصل من قبل الرئيس التونسي قيس سعيّد، في وقت تزايدت فيه الحاجة للطاقم الدبلوماسي لمساعدة التونسيين العالقين في الخارج بسبب وباء كورونا. مع العلم أن العديد من السفارات والقنصليات التونسية شاغرة منذ أشهر، وأبرزها تلك الموجودة في فرنسا والسعودية وسلطنة عمان، لتزداد التساؤلات حول أسباب عدم تكليف سفراء جدد من قبل الرئيس التونسي إلى اليوم، على الرغم من الحاجة الملحة لقيادة السفينة الدبلوماسية في عدد من المواقع الحساسة.
وبقي منصب سفير تونس في السعودية شاغراً منذ شهر سبتمبر/أيلول الماضي، بعد أن تقرر إنهاء تكليف الوزير المفوض لطفي بن قايد، من مهمة "سفير فوق العادة ومفوّض للجمهورية التونسية بالرياض"، ومنذ ذلك التاريخ يتولى القائم بالأعمال بالإنابة في السفارة التونسية هشام الأجواد، تسيير أعمالها وتمثيل الدولة التونسية بها. وبدورها ما تزال الدبلوماسية التونسية في فرنسا عرجاء بعد قرار إعفاء سفير تونس، عبد العزيز الرصاع منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي بسبب شبهة فساد تلاها فتح تحقيق معمّق بقرار رئاسي، لتظلّ السفارة بلا سفير. كما أُعفي في الفترة نفسها القيادي السابق في حزب "نداء تونس" علي الشعلالي من مهام القنصل العام لتونس، على الرغم من ثقل ووزن هذا البلد بالنسبة للدبلوماسية التونسية بسبب تاريخية العلاقات من جهة ولكون فرنسا الشريك الاقتصادي الأول لتونس من جهة ثانية، فضلاً عن وجود أكبر جالية تونسية في الاغتراب فيها.
ولا تزال سفارة تونس بسلطنة عمان أيضاً من دون سفير منذ فبراير/شباط الماضي، تاريخ منح الثقة لحكومة إلياس الفخفاخ بعد أن اختار سعيّد تعيين السفير التونسي هناك نور الدين الري وزيراً للشؤون الخارجية. وتلقت إدارة سعيّد للملف الخارجي وقيادته لسفينة الدبلوماسية انتقادات شديدة من معارضيه، وحتى من قبل الخبراء، الذين وصفوا موجة الإقالات وبعض التعيينات بـ"غير المدروسة" و"الارتجالية".
وفي مؤشر على تخبّط الدبلوماسية التونسية، نشر السفير التونسي في واشنطن، فيصل قويعة، المعيّن أخيراً من سعيّد، مقالاً في مجلة "ليدرز"، أبدى فيه دعمه للمرشح الديمقراطي للرئاسيات الأميركية جو بايدن، ما استدعى رداً من عضو لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، عبد الوهاب الهاني، الذي وصف المقال بـ"الفوضى الدبلوماسية التي تهدد المصالح العليا للدولة". وأضاف أن ما جاء فيه "يُعدّ تدخلاً في الشؤون الداخلية للدولة المعتمد لديها واصطفافاً إلى جانب المرشح الديمقراطي جو بايدن لمنافسة الرئيس المباشر دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة"، وذكر فيه "العمل بنصيحة المرحوم (الرئيس التونسي السابق) الباجي قائد السبسي لبايدن بالترشح". وشدّد الهاني على أن "الدبلوماسيين المباشرين محمولون على واجبات حفظ أسرار الدولة والتحفظ والامتناع عن نشر آرائهم الخاصة". وسأل "أين رئيس الجمهورية القائد الأعلى للسياسة الخارجية التونسية؟ أين رئيس الحكومة رئيس السلطة التنفيذية؟ أين وزيرنا للخارجية رئيس الدبلوماسية؟".
من جانبه اعتبر الخبير الدبلوماسي، السفير السابق عبد الله العبيدي في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "تواصل الشغور في بعض السفارات والقناصل في عدد من الدول إلى اليوم، ينمّ عن قلة وعي بأهمية السياسية الخارجية وعدم إلمام بانعكاسات هذا الفراغ الدبلوماسي على العلاقات الخارجية، تحديداً على الجاليات التونسية". وأضاف أن "الفترة الصعبة التي مرّت بها تونس وكل الدول بسبب الوباء، التي شهدنا خلالها عملية إجلاء عدد هام من التونسيين العالقين بمختلف دول العالم، أظهرت الدور الدبلوماسي الذي يمكن أن تؤديه الدولة من أجل حماية جالياتها في الخارج. وهذا الفراغ الذي ما تزال تعيشه تونس في عدد من السفارات على غرار السعودية وفرنسا، من الدول التي تضم عدداً هاماً من التونسيين يعكس قلّة وعي بأهمية الدور الدبلوماسي في هذه المرحلة". ورأى أن "هذا الأمر يُعتبر سابقة، مقارنة بما دأبت عليه السياسة الخارجية والتقاليد الدبلوماسية من أعراف ونواميس في التنسيق والتعامل الدبلوماسي منذ تأسيس الدولة".
ورجّح العبيدي أن يكمن "سبب التأخير في شخصنة السياسة الخارجية والتنافس في تعيين وتسمية السفراء وغياب التنسيق بين رئيس الدولة ووزارة الخارجية، في اقتراح الكفاءات المطلوبة لهذه المواقع في الدولة"، معتبراً أن السياسة الخارجية لا تقتصر فقط على اللقاءات والمحادثات الهاتفية، بل هي بالأساس مردود عملي يقوم به السفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية والقناصل، ويرتكز على ملفات هامة في الدولة، تمهّد الطريق وتساعد على دعم السياسة الخارجية والعلاقات الدبلوماسية. لذلك فإن رئيس الدولة ووزير الخارجية مطالبان بضرورة التسريع بسدّ الشغور في هذه المواقع، لانعكاسه المباشر على الوضع الدبلوماسي".
في السياق عينه، أبدى وزير الخارجية الأسبق، أحمد ونيس، اعتقاده في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الوعي بهذا الفراغ الذي نعيشه منذ فترة في مجال السياسة الخارجية محدود جداً، وهذا الوضع يشغل العائلة الدبلوماسية بشكل كبير منذ أشهر، لأننا لم نجد إلى الآن رداً مقنعاً ومبرراً لما يحصل في السلك الدبلوماسي". وأضاف "أتصوّر أنه من بين الأسباب التي ربما يذهب لها البعض في تفسير هذا التأخير في سد الشغور، تأخر تشكيل الحكومة وتعطل مسارها لأشهر طويلة". واعتبر أن "تقديم الانتخابات الرئاسية عن موعدها الطبيعي (من 17 نوفمبر/تشرين الثاني و24 منه الماضي، إلى 15 سبتمبر/أيلول و13 أكتوبر/تشرين الأول الماضيين) وانتخاب رئيس جديد ثم الدخول في مفاوضات تشكيل الحكومة، وظهور وباء كورونا، ساهم بنسبة كبيرة في تغيير أولويات الدولة والحكومة والتركيز أكثر على هذا الفيروس". ورأى أن "الإشارات الخطيرة التي ظهرت هي أسلوب حكم رئاسة الجمهورية، عبر عزل وزراء الخارجية والدفاع قبل تشكيل الحكومة الجديدة، وهو ما يعتبر في رأيي ضرباً لخيارات وسياسات الرئيس السابق في الخارجية والدفاع". وشدّد على أن "الأسرة الدبلوماسية اعتبرت أن قرار العزل لم يكن في محلّه، وأنه كان من الأجدر لمصلحة الدولة وتواصل مؤسسات الدولة إتمام الوزراء مهامهم إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة، ويقع التغيير بصفة آلية من دون أي تعطيل لسير مؤسسات الدولة، لكن قرار العزل خلق فراغاً دام أشهراً".
وأضاف ونيس "حصلت إقالات أخرى تعتبر تعسفية في أسلاك هامة في السعودية وفرنسا ونيويورك الأميركية، تُعدّ بمثابة ضربات للسلك الدبلوماسي كان يمكن تفاديها، لأنها لم تخلق فراغاً في هذه المناصب فقط، بل زعزعت أيضاً السفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية في الشبكة التونسية وأربكت عملهم، ما يُشكّل سابقة في تاريخ السلك الدبلوماسي في تونس". واعتبر "أن الدولة التونسية تدفع الآن ثمن هذا الفراغ الدبلوماسي، نظراً لغياب الرؤية البعيدة المدى وأسلوب العمل الذي يسمح في سدّ الفراغ، فقد دفعت تونس ثمن هذا الإخفاق أمام مجلس الأمن في ملف فلسطين والقرار الأميركي بمنع الشرعية الفلسطينية في امتلاك أراضيها، إلى جانب الفشل في إنجاح مشروعنا الذي يهمّ الحالة الصحية العالمية الذي قوبل بالرفض (مشروع القرار التونسي ـ الفرنسي لوقف الحروب في العالم والتفرّغ لمساعدة الدول لتجاوز تداعيات وباء كورونا)، وبالتالي فإن هذا الفراغ في السياسة الخارجية التونسية رغم حصولنا على مقعد في مجلس الأمن منذ يناير/كانون الثاني الماضي، يعتبر خيبة كبيرة للتقاليد التونسية في السياسة الخارجية".
وانتقد مراقبون سياسة "الهروب الناعم" عبر منح الإذن بـ"فتح التحقيقات" من دون متابعتها، والتي تحولت إلى مخرج دبلوماسي يعتمده الرئيس لتجاوز الإشكاليات الخارجية والصعوبات الدبلوماسية، عبر التحقيق في شبهات فساد في سفارة تونس بفرنسا، وشبهة الفساد بسفارة تونس بموريتانيا، وأخرى بسفارة تونس في السعودية.
في سياق متصل، وجه الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، رسالة مفتوحة إلى الرئيس قيس سعيّد طالب عبرها بالكشف عن نتائج التحقيق الذي كلّف به قبل 3 أشهر وزيرة الشباب والرياضة السابقة سنية بالشيخ بإجرائه، بخصوص مشاركة لاعب إسرائيلي في دورة دولية لكرة المضرب في تونس. وذكر الشابي في حسابه على "فيسبوك": "لا يخفى عليكم أن القطع مع أساليب الحكم البالية يقتضي فيما يقتضيه نشر نتائج التحقيقات واتخاذ الإجراءات، لمنع تكرار ما حصل لو ثبت وجود تجاوز وتحديد المسؤوليات ومحاسبة كل من ثبت إخلاله بما يُلزمه به الواجب". وشدّد على أن "التونسيين يئسوا من فكرة تشكيل لجان التحقيق منذ الثورة (2010) إلى اليوم من دون متابعة أعمالها، بل لعلهم أصبحوا يعتقدون أنها أفضل طريقة لطيّ الملفات ولفت أنظار الناس عنها".