بات واضحاً أن عملية التشكيل الحكومي الجديد في لبنان، مرتبطة بعوامل عدة أفرزتها انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول اللبنانية، تحديداً لناحية شكل الحكومة ودورها التنفيذي، في ظلّ محاولات السلطة السياسية إعادة إنتاج نفسها بصيغة ما، ولو تحت اسم "حكومة تكنوقراط". في اليوم الـ21 على انتفاضة لبنان، لم يتمكن أطراف السلطة من الاتفاق على تأليف حكومة جديدة، فلقاء رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، مع رئيس الحكومة المستقيل، سعد الحريري، يوم الاثنين، لم يكن إيجابياً. كل الطروحات تمحورت حول إمكانية تشكيل حكومة من 24 وزيراً، 4 منهم أساسيون، وهم الحريري وباسيل، بالإضافة إلى وائل أبو فاعور عن الحزب التقدمي الاشتراكي وعلي حسن خليل عن حركة أمل. في المقابل، لن ينطبق مبدأ "التكنوقراط" بالكامل على الوزراء الـ20 الباقين، لكونهم سيتمتعون بغطاء حزبي لن يسمح لهم بالعمل خارج إطار المنظومة السياسية. وفي هذا الطرح تبقى القوات اللبنانية خارج الحكومة، "عقاباً" لها على استقالة وزرائها الأربعة في اليوم الثاني من الانتفاضة من جهة، ولحسابات رئاسية بالنسبة إلى باسيل من جهة ثانية، لناحية إبعاد رئيس القوات سمير جعجع عن معركة رئاسيات 2022.
ومن الصيغ التي طُرحت أيضاً، تسمية وزيرة الداخلية في حكومة تصريف الأعمال، ريا الحسن، رئيسة للحكومة، مع العلم أن المآخذ على الحسن كثيرة، لكونها لم تقم بواجباتها الأمنية أمام مسلسل الاعتداءات على المتظاهرين في مختلف المناطق اللبنانية، مع بدء الانتفاضة. لا بل وصفت الاعتداءات في حديث لقناة "سي أن أن" الأميركية، بأن "الأمور السيئة تحدث". في المقابل، فإن اسم رئيس الحكومة السابق تمام سلام عاد إلى الواجهة، لكونه من الأشخاص المقبولين بيروتياً وفي الشارع السني ولدى حزب الله من جهة أخرى، لكن مشكلة سلام أنه من المحسوبين على الحريري، وليس خصماً له. وطرح اسمه يأتي في سياق إعادة السلطة إنتاج نفسها. مع ذلك فإن السلطة نفسها تطرح إمكانية ضمّ بعض شخصيات الانتفاضة إلى صفوفها، وفي هذا الأمر محاولة سلطوية لتفكيك الانتفاضة، عبر طرح أسماء، سعت دائماً لـ"ركوب الموجة الثورية" بغية تحقيق هدف شخصي، وهو ما يعيد الأمور إلى المربّع الأول، حول ضرورة تشكيل حكومة تنبثق فعلاً من مطالب الناس، لا بغرض تغيير بعض الوجوه والإبقاء على السياسات ذاتها، في ظلّ أزمة اقتصادية خانقة، لن تنتهي قريباً، مهما حاول حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، الإيحاء بذلك. كذلك من بين الأسماء المطروحة نظرياً لترؤس الحكومة، القاضي في محكمة العدل الدولية، السفير السابق لدى الأمم المتحدة نوّاف سلام، وهو محسوب، وإن بطريقة غير مباشرة، على الحريري.
حاول الرئيس أمين الجميّل (1982 ـ 1988) تأمين انطلاقة إنقاذية لعهده، بعد اغتيال شقيقه الرئيس بشير، بالاستعانة بشفيق الوزان رئيساً لحكومة تكنوقراط لم تستمر طويلاً، بفعل الأحداث العسكرية المتلاحقة في حرب لبنان. أما بعد انتهاء الحرب وبدء عهد الطائف، فغابت حكومات التكنوقراط لمصلحة حكومات الرئيس المُغتال رفيق الحريري، الذي تصادم سريعاً مع رئيس الجمهورية الجديد، إميل لحود (1998 ـ 2007)، الذي اختار سليم الحص، رئيساً لحكومة انتقالية بين عامي 1998 و2000. ومع تمديد ولاية لحود لثلاث سنوات في سبتمبر/أيلول 2004، انفجر الوضع اللبناني، بعد سلسلة تفجيرات واغتيالات، أدت إلى اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005، واستقالة حكومة عمر كرامي في 28 فبراير من العام عينه، ليتفق الجميع بعدها على تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسة نجيب ميقاتي، كان هدفها إجراء الانتخابات النيابية بين مايو ويونيو من العام عينه، من دون مشاركة أيٍّ من أعضائها في الانتخابات، وهو ما حصل، لتكون حكومة ميقاتي آخر حكومة تكنوقراط في تاريخ لبنان حتى الآن.