وكانت "رويترز" أوّل من كشف عن نشاطات "دارك ماتر" التجسسية، في تحقيق نشرته في 30 يناير/كانون الثاني الماضي، خلافاً لتصريحها الرسمي بأنها "شركة دفاعية"، وأنها وظفت ذلك في تعقب ومراقبة صحافيين ومنظمات غربية ونشطاء حقوق إنسان، أبرزهم الناشط الإماراتي أحمد منصور.
وقبل يومين، نشرت صحيفة "هآرتس"، في ملحقها الاقتصادي "ذي ماركر"، تحقيقاً جديداً كشف عن أن الشركة الإماراتية بدأت عام 2014 باستمالة خبراء من وكالة NSO قبل أن تبدأ في العامين الأخيرين، عبر مكتبها في قبرص، بتجنيد خريجين من وحدة 8200 الإسرائيلية.
مع ذلك، قالت الصحيفة إنه على الرغم من شبهات بمخالفة هؤلاء الخريجين من الوحدة الإسرائيلية لقوانين وأنظمة تصدير المعلومات الأمنية، إلا أن وزارة الأمن الإسرائيلية والجيش اعتمدا ضبابية في التطرق إلى هذه المعلومات، ولم تقرّ الوزارة بما إذا كانت قد منحت هؤلاء الخبراء السباقين، في وحدة 8200، تصريحاً رسمياً، وفق ما ينص عليه القانون والأنظمة العسكرية.
ولفت تحقيق "ذي ماركر"، المؤسس على تقرير "رويترز"، إلى أن الإمارات تعرض على هؤلاء الجنود السابقين رواتب فلكية قد تصل إلى مليون دولار، وأن الإمارات تسعى إلى تطوير شركة سايبر هجومية، وليس فقط لأغراض "مكافحة الإرهاب السيبراني" والنشاطات المعادية لها.
ورداً على هذا التقرير، نشرت "يديعوت أحرونوت"، اليوم، تحقيقاً خاصاً قام به كل من رونين بيرغمان وإيتاي إيلانا المختصان بقضايا التجسس والأجهزة السرية في إسرائيل، ذكرا فيه أن الدولة الإسرائيلية لا تحرك ساكناً في مواجهة ظاهرة تجنيد خبراء وجنود سابقين من الوحدة المذكورة (8200) للعمل مع الشركة الإماراتية.
وبحسب "يديعوت أحرونوت"، من شأن هذه الظاهرة أن تؤدي إلى وضع تُطوَّر فيه برمجيات سيبرانية هجومية، من شأنها لاحقاً أن توجه لضرب الأمن الإسرائيلي. لكن مقابل هذا التهويل، ذكر مصدر إسرائيلي رفيع المستوى في مجال حرب السايبر والتصدير الأمني، لصحيفة "ذي ماركر"، أن احتمالات أن تقوم ألمانيا الحليفة ببيع سلاح خطير ضد إسرائيل أكبر بكثير من احتمالات أن تقوم الإمارات العربية المتحدة بخطوة من هذا القبيل.
وفي سياق التهويل الدراماتيكي، لتحقيق "يديعوت أحرونوت"، يورد بيرغمان رواية جندي سابق في هذه الوحدات يحكي كيف أن صديقاً سابقاً له في الوحدة دعاه إلى العمل في الشركة الإماراتية "دارك ماتر"، مضيفاً أنه قطع كل صلة له بإسرائيل، وأنه يعمل اليوم على تطوير أسلحة سايبر لدول عربية.
وبحسب تحقيق "يديعوت أحرونوت"، ونقلاً عن مصادر في صناعات السايبر الإسرائيلية، فإن جنوداً وخبراء سايبر إسرائيليين من الوحدة 8200 ووحدات تكنولوجية سرية أخرى، انضموا في السنوات الأخيرة للعمل في شركات مختلفة لدول لا تقيم بالضرورة علاقات مع إسرائيل، وإن العديد منهم يحصلون مسبقاً على أذون أو على الأقل وجهة نظر قانونية قبل مغادرتهم إسرائيل للعمل في تلك الشركات، وإن من بين النصائح التي يحصلون عليها الإعلان أنهم قطعوا كل علاقة لهم بإسرائيل، ما يعفيهم للوهلة الأولى من ضوابط قانون التصدير الأمني الإسرائيلي.
ويقرّ تحقيق "يديعوت أحرونوت" هو الآخر، بأن الحديث بالأساس هو عن شركة dark matter التي تعتبر الذراع السيبرانية للاستخبارات الإماراتية.
وبحسب "يديعوت أحرونوت"، فإن ظاهرة "الخروج للعمل في السوق الحرة خارج المنظومات الإسرائيلية لا تقتصر على خريجي الوحدة 8200، بل تمتد لتطاول أيضاً رجال أعمال إسرائيليين أنشأوا بدورهم شركات مستقلة خارج إسرائيل وبعيداً عن أنظمة وقانون تصدير المعلومات الأمنية ويقومون بدورهم باصطياد وتجنيد خريجي وحدات السايبر الإسرائيلي للعمل في شركاتهم التي أقاموها خارج إسرائيل".
ويشير التحقيق إلى ما هو معروف بشأن كون غالبية شركات الهايتك الإسرائيلية تأسست وأقيمت من قبل خريجي وحدات التجسس والحرب السيبرانية في جيش الاحتلال، مثل شركة NSO التي اشتهرت بتطوير برنامج التجسس "بيغاسوس"، والتي تعاونت مع الإمارات العربية المتحدة، كما أشارت تقارير إلى تعاونها مع السلطات السعودية في تعقب الصحافي جمال خاشقجي قبل قتله في مقر القنصلية السعودية في إسطنبول. وأشار التحقيق إلى أن الإمارات العربية المتحدة دفعت للشركة الإسرائيلية المذكورة نحو 100 مليون دولار مقابل خدمات سايبر وبرامج تجسس وتعقب لنشطاء معارضين للحكم.
ولفت التحقيق إلى أن الشركة الإماراتية كانت قد تأسست في عام 2014 على يد هيئة استخبارات إماراتية رسمية تدعى NESA، التي نشرت عن نفسها في موقعها على الشبكة وجهات أخرى أنها شريك استراتيجي لحكومة الإمارات، وأنها بدأت نشاطها في تجنيد خبراء سايبر متخصصين أساساً في اختراق الهواتف الذكية وكاميرات الحراسة.
وكانت المباحث والمخابرات الأميركية، بحسب تحقيق لصحيفة "نيويورك تايمز"، قد أشارت قبل عامين إلى أن الشركة الإماراتية استخدمت عدداً من العاملين في وكالة السايبر الأميركية الرسمية NSA. وثارت شكوك، بحسب تحقيق لـ"نيويورك تايمز" وتحقيق آخر لـ"رويترز"، في نشاط الشرطة الإماراتية في التجسس على مواطنين أميركيين، وليس فقط على مواطنين إماراتيين ومعارضين. كما سبق، بحسب التحقيقين، أن أطلقت المباحث الفدرالية الأميركية، تحقيقات ضد الشركة الإماراتية "دارك ماتر" بعد أن ثارت شبهات في أن الأميركيين الذين عملوا سابقاً في وكالة NSA الأميركية وانتقلوا للعمل في الشركة الإماراتية تحولوا عملياً إلى جواسيس يعملون ضد أمن بلادهم.
ويلفت تحقيق "يديعوت أحرونوت" إلى "التعاون الاستخباري والسيبراني بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة" ولو تحت تعبير "وفقاً لتقارير في الصحافة الأجنبية"، لتجنب اعتراف رسمي بهذا التعاون.
وتنقل "يديعوت أحرونوت"، عن مسؤول أمني سابق في مجال السايبر الإسرائيلي، قوله إن لدولة "إسرائيل مصالح كثيرة مع الإمارات العربية المتحدة، وهناك أهمية استراتيجية للعلاقات معها بغضّ النظر عن كيفية التعبير عن هذه المصالح وعرضها، و"دارك ماتر" هي شركة حكومية إماراتية أُسِّسَت لتطوير قدرات سيبرانية هجومية". ويقرّ المسؤول المذكور بأن الشركة الإماراتية جندت أخيراً خبراء من وحدات السايبر النخبوية، ولا سيما 8200.
ويصرّ الخبراء الإسرائيليون الذين يعملون مع الشركة الإماراتية من مقرها في قبرص، على أن المعلومات التي توافرت لهم من خلال خدمتهم العسكرية باتت قديمة ولا تؤثر أو تضرّ بالأمن الإسرائيلي، حتى بعد تلقيهم اتصالات من مسؤول أمن المعلومات في وزارة الأمن الإسرائيلية، وأن نشاطهم مختلف كلياً عن عملهم في وحدات الجيش.
ولكن يبدو، خلافاً لمحاولات معدي التحقيق التهويل من خطر هذه الظاهرة، أن كل هذا النشاط يجري بمعرفة الجهات الأمنية الإسرائيلية وموافقتها، وخاصة في وزارة الأمن، حيث رفضت الأخيرة التطرق علناً لهذه القضية، فيما اتضح أن هؤلاء الخبراء العاملين في الشركة الإماراتية، حصلوا على أذون ووجهات نظر قضائية تقيهم من المحاسبة في إسرائيل بتهم تهريب المعلومات، وأن أحد الذين زودهم بهذه الدفاعات القانونية، مكتب المحاماة هرتسوغ فوكس نئمان، الذي يعمل فيه، شريكاً، زعيم المعارضة الإسرائيلية الأسبق، عن حزب العمل يتسحاق هرتسوغ.
وجاء في الرد الرسمي لوزارة الأمن الإسرائيلية على توجه صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أن "عمل إسرائيليين في شركات أجنبية، يتطلب رخصاً وأذونات وفق القانون فقط عندما يقومون بنقل معلومات أمنية أو خدمات أمنية، وفق تعريف القانون، لشركة أجنبية. وزارة الأمن لا تعطي معلومات أو تفاصيل عن أذونات التصدير الأمني، أو تفاصيل عن طلبات للحصول على أذونات من هذا النوع".
ويمكن التقدير بناءً على هذا الرد الرسمي، أن من غير المستبعد أن يكون كل هذا التجنيد الإماراتي لخبراء السايبر الإسرائيليين، يجري بموافقة الجهات العليا في إسرائيل، بهدف تعزيز التعاون الاستخباراتي مع الإمارات من جهة، ولكي يبقى هؤلاء الخبراء عيناً لإسرائيل، حتى لو أعلنوا قطع علاقاتهم معها، على شركة الاستخبارات الإماراتية نفسها.