"قانون قيصر": شل النظام السوري وداعميه

17 يونيو 2020
الهدف الرئيسي للقانون تطويق مصرف سورية المركزي(لؤي بشارة/فرانس برس)
+ الخط -

يدخل اليوم "قانون قيصر" حيز التطبيق الفعلي، من خلال إعلان الإدارة الأميركية عن أول لائحة للعقوبات والإجراءات التي يتضمنها القانون، بعد مضي 180 يوماً على توقيعه من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 20 ديسمبر/كانون الأول 2019.

وإذا كان القانون يهدف بشكل أساسي إلى شل النظام السوري، وتقييد قدرة حلفائه على الاستمرار في محاولات إنقاذه، فإن ثمن تطبيقه لن يدفعه النظام وحده، إذ إن القطاعات المتشعبة المشمولة بالقانون ستؤدي إلى انعكاسات سلبية على المواطنين السوريين، الذين يعانون في الفترة الأخيرة من أوضاع اقتصادية صعبة. ويتزامن تطبيق القانون مع انهيار اقتصادي تعيشه البلاد، ولا سيما المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، حيث فقدت الليرة السورية نسبة كبيرة من قيمتها، إثر تراجعها الكبير في الأسبوعين الأخيرين أمام العملات الأجنبية، خصوصاً بعد الخلافات التي عصفت بالدائرة الضيقة التي تحكم النظام، من خلال صراع رامي مخلوف (ابن خال رئيس النظام) مع بشار الأسد نفسه، على ملفات اقتصادية ومالية.

كل ذلك أدى لتدهور الحالة المعيشية للناس، فبات الفقر والجوع يطرقان أبواب السوريين من أقصى البلاد إلى أقصاها، على اختلاف المسميات للمسيطرين عليها، سواء النظام أو المعارضة أو "الإدارة الذاتية" الكردية، ما جعل الاحتجاجات تعود من جديد، حيث انطلقت من السويداء في السابع من الشهر الحالي، إثر غلاء الأسعار وفقدان المواد الأساسية والأدوية. وقد رفعت التظاهرات الشعارات الأولى للثورة، المطالبة بإسقاط النظام ورئيسه بشار الأسد، ومن المتوقع أن تمتد حركة الاحتجاج مع تفاقم الوضع المعيشي لتشمل محافظات أخرى، وفي مقدمتها العاصمة دمشق.

ومن المتوقع أن يتم الإعلان اليوم من قبل مسؤول أميركي رفيع المستوى عن إطلاق أول حزمة من الأسماء والشركات التي ستقع العقوبات عليها. وستتبع هذا الإعلان حزمُ عقوبات أخرى في أوقات متعاقبة خلال الأشهر الثلاثة المقبلة. وتكمن أهمية هذه الحزمة، أو الحزم التي ستليها، في أنها ستشير بشكل واضح إلى أن بشار الأسد أصبح خارج إطار محاولات روسيا لإعادة تأهيله، إضافة إلى عدم المقدرة على تقديم المساعدة له، سواء من قبلها أم من قبل أي حليف آخر، سواء أكان فرداً أم شركة أم دولة.

إضافة إلى ذلك، فإن شروط تعليق العقوبات، حسب القانون، تتمثل في إنشاء مسار محاسبة فعال وذي مصداقية لمحاكمة نظام بشار الأسد على جرائم الحرب، التي ارتكبها منذ العام 2011 وحتى الآن. وتم ربط رفع العقوبات بموضوع المحاسبة وإطلاق سراح المعتقلين ووقف قصف المدنيين والمناطق المدنية، إضافة للسماح بالعودة الآمنة للاجئين. ولعل هذه القضايا التي ينظمها "قانون قيصر"، في حال كانت هناك جدية في تطبيقها من قبل الولايات المتحدة، تعني أن الأسد أصبح خارج المشهد السياسي الدولي، وأنه لا يمكن أن يكون له أي دور في أي حل سياسي في سورية.

وتشير المادة الثانية من القانون، والمتعلقة بالسياسة العامة له ولواشنطن التي أصدرته، إلى أنه "ينبغي استخدام الوسائل الاقتصادية الدبلوماسية والقسرية، لإجبار حكومة بشار الأسد على وقف هجماتها القاتلة على الشعب السوري، ودعم الانتقال إلى حكومة، تحترم حكم القانون وحقوق الإنسان والتعايش السلمي مع جيرانها". ومن هذا التعريف، فإن الهدف الرئيسي للقانون هو شل البنية الاقتصادية والمالية للنظام السوري، من خلال تطويق "مصرف سورية المركزي"، الذي ستطاوله العقوبات في حال مشاركته في عمليات "غسل أموال" لصالح النظام، ومن ثم محاصرة الأخير، دبلوماسياً وسياسياً، ولا سيما لجهة الحد من إعادة تنشيط علاقاته، أو تحجيم تلك العلاقات مع حلفائه التقليديين أو ربما قطعها بالمطلق، الأمر الذي ربما سيؤدي إلى محاصرة النظام وتقييد حركته، وخسارته لحلفائه الذين سيجدون أنه بات عبئاً ثقيلاً عليهم، ولا سيما الروس، الذين يتطلعون لدور فاعل في عملية "إعادة الإعمار". وباتوا يعون تماماً أن هذه العملية لا يمكن البدء، أو الانخراط فيها، مع وجود بشار الأسد ونظامه على رأس السلطة.


و"قيصر" أو "سيزر"، هو الاسم الحركي لعسكري ومصور في الطبابة الشرعية في جهاز الشرطة العسكرية للنظام، ومقره العاصمة دمشق. وكانت مهمته قبل الثورة تقتصر على تصوير الحوادث الجنائية المرتبطة بالجيش والمؤسسة العسكرية من جرائم قتل وغيرها، قبل أن تسند إليه مهمة الذهاب إلى المستشفيات العسكرية للنظام في العاصمة وتصوير جثث القتلى من المعتقلين، فتمكّن من توثيق هذه الصور وتخزينها، وجمع نحو 55 ألف صورة لـ11 ألف معتقل قضوا تحت التعذيب، وذلك حتى منتصف 2013، وهو الموعد الذي قرر فيه "قيصر" الانشقاق عن المؤسسة العسكرية، بالتعاون مع منظمات سورية ودولية، وبحوزته هذا الكم من الصور التي تشكّل أكبر دليل إدانة للنظام.

وكان النظام نجح في تعطيل كل قنوات الحل السياسي طيلة الفترة الماضية، إذ إن جولات مسار جنيف الأممي، لم تستطع تطبيق السلال الأربع التي حددها المبعوث الأممي السابق إلى سورية ستيفان دي ميستورا، بناء على قرار مجلس الأمن 2254، وهي على الترتيب: الانتقال السياسي، والدستور، والانتخابات، ومكافحة الإرهاب. وماطل النظام محاولاً الالتفاف عليها، إلا أن الضغوط الدولية أجبرته على القبول بالانخراط في مسار اللجنة الدستورية، الذي عمد إلى تعطيله أيضاً، بتقديم جداول أعمال لجلسات اللجنة، لا تدخل في نطاق عملها، محاولاً عرقلتها، وهو ما نجح فيه حتى الآن.

أما في ما يتعلّق بمسار أستانة، فلعب وجود إيران وروسيا مقابل تركيا بمفردها في هذا الملف، دوراً كبيراً لصالح النظام، حيث تجاوز كل مخرجاته من خلال عمليات التقدم العسكرية، بغطاء روسي وإيراني، في حين كان الدور التركي أقل دعماً لصالح المعارضة، رغم تحسنه في المراحل الأخيرة من العمليات، التي توقفت باتفاق وقف إطلاق النار في موسكو، في الخامس من مارس/آذار الماضي. ويستعد النظام حالياً لخرق الاتفاق عبر حشد قواته على خطوط التماس في إدلب ومحيطها، في توجه للهروب من الضغوط الداخلية التي سيفرضها تطبيق "قانون قيصر"، بشن عمل عسكري، ربما يكون محدوداً، نظراً لقوة الردع العسكرية التركية في إدلب.

وحول نطاقات أو مجالات تطبيق القانون داخل بنية وتركيبة النظام الحكوميتين والسياسيتين، وتأثير ذلك على وضعه داخل حلقة حلفائه، سياسياً وقانونياً، بعد أن فقد الكثير من العلاقات مع دول حول العالم منذ اندلاع الثورة، يرى الخبير القانوني والسياسي السوري محمد صبرا أن "القانون يضع جميع موظفي الصف الأول داخل النظام ضمن العقوبات، وبالتالي وسع نطاق العقوبات وحوّلَها من مجرد عقوبات شخصية إلى وظيفية، بغض النظر عن الشخص الذي سيشغل هذه الوظيفة. إضافة إلى ذلك، فإن أي شخص يدخل في علاقة تعاقدية مع النظام، في صفقة مالية أو اقتصادية مهمة، أو يتعاقد مع شخص من النظام أو لحسابه أو لحساب روسيا أو إيران، أو المجموعات العسكرية وشبه العسكرية التابعة لأي منهما، فهو يقع ضمن دائرة العقوبات، وهذا أيضاً توسيع لنطاق العقوبات. فضلاً عن العقوبات على التعاقدات في قطاعات محددة، مثل النفط والطاقة، وقطع تبديل الطائرات العسكرية أو مستلزمات تشغيلها، وإعادة الإعمار. وهذا سيكون أوسع نطاق ممكن للعقوبات على النظام".


ويلفت صبرا، في حديثه مع "العربي الجديد"، إلى أن "قيصر لا يفرض عقوبات على سورية كدولة، أو على الاقتصاد السوري، لأن عقوباته موجهة ضد النظام وحلفائه فقط، وفي قطاعات مُحددة تخدم المجهود العسكري. وهذا يعود لهدف القانون، فهو أصلاً جاء تحت اسم قانون حماية المدنيين في سورية، ووفق هذا الهدف يجب تفسير وقراءة كل ما ورد فيه، لأنه يهدف للحد من فعالية الآلة العسكرية الحربية للنظام ولحلفائه، ومنعهم من الحصول على الموارد اللازمة لتمويل استمرار حربهم ضد المدنيين السوريين. ولذلك، يختلف قانون قيصر عن منظومات العقوبات التي شهدناها سابقاً في بعض التجارب التاريخية، كالعراق مثلاً، الذي فرضت عليه عقوبات كدولة واقتصاد وجغرافيا حسب المادتين 41 و42 من ميثاق الأمم المتحدة، أما قيصر فهو قانون أميركي يهدف للحد من قدرة النظام العسكرية والاقتصادية، لمنعه من الاستمرار في قتل المدنيين".

وعن آلية تنفيذ العقوبات غير الاقتصادية التي يفرضها القانون، في حال تجاوزه من قبل النظام أو المتعاملين معه، سواء أكانوا دولاً أم شركات أم أفراداً، يشير صبرا إلى أن "قيصر قانون أميركي وليس قانوناً دولياً، والجهة التي ستنفذه هي الإدارة الأميركية، وبالتالي لا يوجد ضمنه سوى العقوبات الاقتصادية التي تستطيع وزارة الخزانة الأميركية اتخاذها. وقد رأينا في حالة إيران والصين أن هذه العقوبات، عادة، تكون فعالة، لأن جميع الشركات العالمية تخشى من الدخول في علاقات اقتصادية وتعاقدية مع أي جهة تفرض عليها وزارة الخزانة الأميركية عقوبات اقتصادية". وحول ما إذا كانت مادة أو مواد القانون كافية لإسقاط النظام، على المدى المنظور أو البعيد، يرى صبرا أن "القانون لا يهدف لإسقاط بشار الأسد، وليس من مهامه إسقاطه، حيث تبقى مهمة إسقاطه بيد السوريين وليس سواهم. وللتأكيد، فإن أهمية القانون أنه سيحد من فعالية الآلة العسكرية لبشار الأسد وحلفائه في حربهم ضد السوريين".


وبعكس ما يتم التداول به حول القانون، بأنه ذو جوانب اقتصادية بحتة من ناحية فرض العقوبات على البنية الاقتصادية والمالية للنظام، فإن الباحث والمحلل الاقتصادي السوري يونس الكريم يرى أن الجوانب السياسية والعسكرية التي يتضمنها القانون تطغى على الاقتصادية، متفقاً بذلك مع رأي محمد صبرا، مشيراً إلى أنه بعد التعديلات التي طرأت على القانون، يلاحظ الفرق بين المسودة التي طرحت في العام 2016 والصيغة النهائية الحالية للقانون. ويوضح الكريم، في حديثه مع "العربي الجديد"، بأن "مصرف سورية المركزي الذي ذكره القانون في مواده، لن تطاوله العقوبات، إلا في حال ثبوت تورطه في عمليات غسل الأموال، وهذا الأمر يصعب إثباته. علماً أن مثل هذه العمليات تتم من قبل النظام عن طريق البنوك التجارية التي استثناها القانون. وهنا نلاحظ أن القانون سيراقب حركة وعلاقات البنوك مع البنك المركزي، إذ إن البنوك التجارية الخاصة أو العامة إذا تعاملت مع البنك المركزي فستكون مشمولة بالعقوبات. ولا بد من الإشارة إلى نقطتين: الأولى تتعلق بأن بعض البنوك التجارية تطاوله عقوبات قديمة، كبنك سورية الإسلامي، وبعضها غير مشمول بالعقوبات. والثانية هي أن البنك المركزي، ومنذ تسلم حاكمه الجديد حازم قرفول، لم يعد يتدخل بالسياسات النقدية والسياسات الخارجية، وبالتالي يمكن للنظام الالتفاف على العقوبات بطرق مختلفة".

ويشير الكريم إلى أن النظام "بإمكانه الالتفاف على العقوبات، بتجزئة عمليات الدعم المالي المقدمة إليه؛ حيث يلاحق القانون عمليات الدعم الكبيرة أو المهمة، وبالتالي يمكن للنظام اللجوء إلى الشركات الصغيرة غير المرتبطة به بشكل مباشر، بهدف استخدامها كمصدر لإمداده بشكل مجزأ. أضف إلى ذلك، أن الأجانب الذين ستشملهم عقوبات القانون، يجب أن يكونوا عسكريين أو يدعمون النظام عسكرياً، ما يعني أن الأجانب الذين يقدمون دعماً اقتصادياً مستثنون من العقوبات والملاحقة. وعموماً، فإن الاستثناءات كثيرة داخل قانون قيصر، وكأنها تركت للأسد هامشاً للمناورة والالتفاف على العقوبات". وأشار الكريم إلى أن "التأثير الاقتصادي الجانبي للقانون، سنلاحظه بعد هروب أمراء الحرب وكبار رجال الأعمال مع أموالهم إلى الخارج كي لا تشملهم العقوبات، وهذا ما سيزيد من تدهور الليرة وسعر الصرف، بالإضافة إلى ما ستكون عليه النتائج النهائية لصراع مخلوف الأسد مع دخول القانون حيز التنفيذ. أما التأثيرات المباشرة، فستتحدد بعد قياس رد فعل الشركات، ولا سيما الصغيرة والمتوسطة منها التي تتعامل مع النظام، والتي من المتوقع أن تقطع علاقاتها المباشرة معه على الأقل في المراحل الأولى، ما سيربكه مالياً. ويبقى دور الشركات الكبيرة غير قابل للتكهن، لقدرة هذه الشركات على الالتفاف والتحايل على العقوبات".


وحول تأثير القانون على تعامل النظام، الاقتصادي والمالي، مع الشركات الروسية والإيرانية وعملية إعادة الإعمار، يقول الكريم إنه "يُنظر لهذا الأمر من خلال نقطتين: الأولى تخص الشركات الإيرانية، فإن تعامله معها سيكون مقطوعاً تماماً بسبب ارتباط الشركات بالحرس الثوري والنظام الإيرانيَين. أما الشركات الروسية، فقد ترك القانون مجالاً لها لتجنب العقوبات، كون غالبية الشركات التي تتعامل مع النظام هي شركات خاصة، وتتعامل كذلك مع شركات مساهمة – مغفلة سورية ينظم عملها القانون التجاري. أما في ما يخص إعادة الإعمار، فقد قوضها قيصر، إذ إنه ركز على الشركات الصغيرة والمتوسطة بتوجيه العقوبات نحوها، وهي شركات كان يخطط بشار الأسد للاعتماد عليها في هذه العملية، في حين تصر واشنطن على أن إعادة الإعمار لن تتم سوى عبر الشركات العملاقة والمتعددة الجنسيات، وهذا ما يعني تدخل شركاتها أو شركات مرتبطة بها بشكل مباشر".