يثير سلوك الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خلال مشاركته في اليوم الأول من أعمال قمة حلف شمال الأطلسي، والتي تسبق قمة له مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في هلسنكي الاثنين المقبل، الكثير من المخاوف والشكوك. القمة الأولى كان واضحاً من مجريات يومها الأول أنها مضطربة ومأزومة. أما القمة الثانية مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من المتوقع أن تكون على النقيض، سلسة وودية. تزامن وتنافر غير مسبوقين منذ قيام حلف شمال الأطلسي في إبريل/نيسان 1949.
ولم تكد أقدام ترامب تطأ أرض بروكسل، حتى شن هجوماً على الدول المشاركة في الحلف، وذلك في إطار زيادة الضغط على أعضاء "الأطلسي" لتعزيز إنفاقهم على الدفاع. وقال، خلال لقاء مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، إن الإنفاق الدفاعي غير المتناسب "عبء غير عادل على الولايات المتحدة". واعتبر أن مساعيه دفعت الشركاء الآخرين في حلف شمال الأطلسي إلى زيادة مساهماتهم في الحلف لكنها لا تزال غير كافية لتخفيف العبء عن كاهل دافعي الضرائب في الولايات المتحدة. وقال "بسببي جمع الأطلسي أكثر من 40 مليار دولار من الإنفاق الدفاعي"، مضيفاً "لذا أعتقد أن الأمين العام يحب ترامب. قد يكون الشخص الوحيد، لكن هذا أمر جيد بالنسبة لي". وتابع "تنفق الولايات المتحدة الكثير والدول الأخرى لا تنفق ما يكفي، خصوصاً بعضها. هذا الوضع مستمر منذ عقود وليس متكافئاً ولا عادلاً بالنسبة لدافعي الضرائب في الولايات المتحدة وسنجعله عادلاً. أريد أن أثني على الأمين العام فهو يعمل بجد شديد لحل هذه المشكلة". وقال عدد من المسؤولين في الحلف، لوكالة "فرانس برس"، إن كل شيء جاهز: الإعلان الختامي والمشاريع والالتزامات. وأشار أحدهم إلى أن "الأمر المجهول الوحيد سيأتي من جانب المشاركين". وبدا ستولتنبرغ مستاء جداً من التوتر ولم يخفِ توجسه من مجريات القمة. فقال "لن أفاجأ بأن تكون محادثات حادة النبرة، خصوصاً في ما يخصّ النفقات على الدفاع". كما هاجم ترامب ألمانيا، معتبراً أنها "خاضعة لسيطرة روسيا بشكل كامل" بسبب مشروع خط أنابيب نفطي، مشيراً إلى أن ألمانيا تحصل على حماية أميركية في الوقت الذي تبرم فيه صفقات متعلقة بالطاقة مع روسيا.
في العادة، كانت واشنطن تستقوي بالحلف في إدارة علاقاتها مع موسكو، أثناء الحرب الباردة وبعدها. في زمن ترامب انقلبت الآية، فهو يرى أن الحلف عقبة وعبء على أميركا. معادلة يعمل على كسرها. وقد حرص عشية القمة على بعث رسائل واضحة بهذا المعنى. قال إن الحلفاء "يقتلوننا بحلف شمال الأطلسي" الذي وصفه بأنه "أسوأ من اتفاقية نافتا التجارية لأنه لا يتعامل معنا بصورة منصفة". وتوقع، في تصريح قبل المغادرة إلى قمة "الأطلسي، أن يكون تعامله مع بوتين "أسهل" من تعامله مع الأوروبيين. كلام أثار الهلع في بروكسل وواشنطن، وبدا كعناوين مسبقة لخطابه في بروكسل، ما أثار الخشية من احتمال أن يقدم على تفجير قنبلة مدوية في القمة. وأكد ستولتنبرغ أن الحلفاء يرغبون في الحصول على توضيحات حول نوايا ترامب قبل لقائه مع نظيره الروسي. ووجّه رئيس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك، أول من أمس، رسالة حازمة، إلى ترامب دعاه فيها إلى "تقدير" حلفائه، عشية قمة للحلف الأطلسي في بروكسل. وقال، خلال مؤتمر صحافي بعد توقيع اتفاقية تعاون جديدة بين الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، "عزيزتي أميركا، قدّري حلفاءك، فليس لك الكثير منهم في نهاية المطاف". وأضاف "أود التوجّه مباشرة إلى الرئيس ترامب الذي ينتقد أوروبا، بصورة شبه يومية، منذ وقت طويل الآن، بسبب مساهمات غير كافية بحسبه في القدرات الدفاعية. ليس ولن يكون لأميركا حليف أفضل من أوروبا، التي تنفق اليوم على الدفاع أكثر بكثير من روسيا وبمقدار ما تنفق الصين". وتابع "آمل ألا يكون لديك أدنى شك بأنّه استثمار في أمننا، وهو ما لا يمكن قوله بالثقة ذاتها عن النفقات الروسية والصينية".
ولتطويق هذا الاحتمال، سارع مجلس الشيوخ، فور مغادرة ترامب، إلى التصويت بأغلبية 97 ضد 2 على قرار، يشدد على "أهمية حلف شمال الأطلسي وتجديد التزام واشنطن بالبند الخامس من ميثاقه الذي يلزم أعضاءه بالمسارعة إلى الدفاع عن أي دولة عضو تتعرض لعدوان خارجي". ومع أن القرار غير ملزم، إلا أن شبه الإجماع الديمقراطي – الجمهوري في التصويت، وعلى وجه السرعة، يعكس مدى الاعتراض على نفور ترامب من حلف شمال الأطلسي، خصوصاً أنه يقرن وباستمرار هذا النفور "بإعجابه" المتواصل ببوتين. ربط عزز توجس جهات وأوساط متعددة من أن يكون تباعد ترامب عن الحلف مرتبطا بتقاربه المضمر مع بوتين وبدوافع تحوم حولها ظنون وعلامات استفهام كثيرة.
يأخذ ترامب على الحلف قصور أعضائه في تحمل مسؤولياتهم المالية. وبعدما كان يطالب بضرورة التزام الدول الـ29 في "الأطلسي" بتخصيص النسبة المتفق عليها 2 في المائة (أميركا 4 في المائة) من الناتج المحلي الإجمالي لأغراض الدفاع، و20 في المائة من هذه الحصة لشراء معدات عسكرية، اقترح على دول "الأطلسي" زيادة نفقاتها العسكرية إلى 4 في المائة. يشار إلى أنه في العام 2014 كانت ثلاث دول فقط تفي بالمطلوب، وقد يرتفع العدد خلال العام 2018 إلى ثمانية فقط. لكن هذا الأمر، في نظر المدرسة التقليدية في السياسة الخارجية، قصور رقمي تبريري لا يوازي "المكاسب الاستراتيجية التي حققتها واشنطن ولا تزال من هذا التحالف العسكري الأقوى والأقدم في التاريخ".
لكن ترامب لا يعتمد هذه المقاييس. يتذرع بالكلفة لتسويغ موقفه. لغته هذه تلقى الترحيب في صفوف قاعدته، وهو يعوّل على شعبويته لمواصلة عزفه على وتر العزلة المرفقة بالتودد إلى الكرملين. يتجاوز تحفظات واعتراضات، حتى من أركان فريقه للأمن القومي ومعه الكونغرس. البعض يطلق عليه اسم "رئيس التفكيك"، فهو يمقت العمل ضمن فريق. وانسحابه النمطي من عدة اتفاقيات وتحالفات حمل البعض على عدم استبعاد أن تتحول رئاسته إلى محطة افتراق عن النهج الذي أرست واشنطن أسسه في السياسة الخارجية غداة الحرب العالمية الثانية. توجه يقول خصومه، وحتى الكثير من أنصاره في الكونغرس، إنه يصب في مصلحة بوتين. يأتيه كهدية. وربما بالتناغم معه. وإلا لماذا قمة مع سيد الكرملين في أعقاب قمة متصدعة لحلف شمال الأطلسي؟ ثم لماذا الاجتماع مع بوتين بحضور المترجم فقط من دون مستشارين ومختصين كما جرت العادة؟ هل هي لعقد صفقة تستلزم هذا القدر من الخصوصية؟