والسبسي، المولود في نوفمبر/ تشرين الثاني 1926، في ضواحي العاصمة التونسية، انخرط في الحزب الدّستوري الجديد وعمره 15 سنة.
درس القانون بجامعة السوّربون بباريس بعد حصوله على شهادة الباكالوريا، وعاد إلى تونس في يوليو/ تموز 1952، والتحق بمكتب المحامي فتحي زهير، فتمّ تكليفه بالدّفاع عن الوطنيّين الذين مثلوا أمام المحكمة العسكريّة إبان الاستعمار الفرنسي لتونس.
اشتغل إبان الاستقلال في 1956 مع الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، وتقلد مهام عديدة في ديوانه وفي وزارتي الداخلية والخارجية، كما شغل منصب سفير تونس في واشنطن وباريس وغيرها، إلى أن دخل في خلاف مع بورقيبة مع عدد من المدافعين عن دمقرطة الحياة السياسية في تونس، ثم عاد مرة أخرى إلى الحكم إثر إعلان الرئيس بورقيبة عن رغبته في تحقيق الانفتاح الدّيمقراطيّ والتّعدّديّة، ليدخل بعد ذلك في تسعينيات القرن الماضي إلى المجلس الدّستوري مع حسيب بن عمّار ورشيد إدريس وعياض ابن عاشور وغيرهم.
وأصبح السبسي نائبا في البرلمان، ثم رئيسا لمجلس النوّاب حتّى أكتوبر/ تشرين الأول 1991، ليبتعد مرة أخرى عن الحكم لفترة طويلة، قبل أن يستأنف عمله في المحاماة حتى قيام الثّورة ورئاسته الحكومة الانتقاليّة المكلّفة بإعداد انتخابات المجلس التّأسيسي في 2011.
وأسس السبسي حزبه حركة "نداء تونس" ليخوض به الانتخابات التشريعية والرئاسية في 2014، وتحصّل على الأغلبيّة في الانتخابات التشريعيّة بـ86 مقعدا من مجموع 217.
وأصبح السبسي رئيسا لتونس بعد حصوله في الانتخابات الرئاسيّة على نسبة 55.68 بالمائة من الأصوات في مواجهة منافسه منصف المرزوقي.
وشهد التونسيون أول تداول سلمي للسلطة بين رئيسين في مشهد أكد نزوع البلاد إلى تأسيس مرحلة جديدة من تاريخها تقوم على الديمقراطية وتحتكم إلى صندوق الاقتراع وقرار الشعب.
وتتضمن سيرة الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي مراحل متقلبة وقرارات جريئة جدا، خصوصا بعد الثورة، حيث قاد عملية الانتقال الديمقراطي الأولى، ثم دخل في حوار مع حزب النهضة ورئيسه راشد الغنوشي لتجنب مواجهة شعبية وشيكة كادت تعصف بالديمقراطية الناشئة إثر اغتيال المناضلين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وأدت تفاهمات اجتماعهما في باريس إلى وضع حكومة محايدة قادت إلى انتخابات ديمقراطية ثانية في 2014.
وبعد الانتخابات، فاجأ السبسي مناضلي حزبه مرة أخرى بقرار الدخول في شراكة وتوافق مع حركة النهضة وتشكيلهما لحكومة مشتركة مع عدد من الأحزاب.
ودام هذا التوافق سنوات، ما منح البلاد حدا أدنى من الاستقرار السياسي، الذي مكّن من تأسيس عدد من المؤسسات الدستورية الضامنة لتأسيس الديمقراطية التونسية.
غير أن الخلافات برزت بعد ذلك بين مكونات حزب "النداء"، وانفجر الحزب الأغلبي إلى عدد من الأحزاب، وانفضت شراكته مع حزب "النهضة"، ودخل في خلاف أيضا مع رئيس حكومته الثاني يوسف الشاهد بعد الحبيب الصيد.
وشهدت البلاد موجة من تعطيل العمل الحكومي وأزمة سياسية قوية متواصلة إلى الآن، عشية الانتخابات المنتظرة في بداية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
وبغض النظر عن الاتهامات التي وجهها إليه خصومه بالإذعان لضغط عائلته، وخصوصا نجله حافظ قايد السبسي، فقد ظل السبسي مدافعا عن حرية التعبير والإعلام، وأكد ذلك مرارا برغم الانتقادات الشديدة له.
وقال السبسي، بمناسبة افتتاح المؤتمر الثلاثين للاتحاد الدولي للصحافيين في تونس قبل أسابيع: "إنّه لم يعد من المقبول سجن الصحافيين بسبب إنتاج صحافي"، مؤكّدا "مواصلة السعي إلى مزيد من تكريس تنقية المنظومة القانونية والجزائية من كل القوانين السالبة للحرية في مجال النشر، لأنّ خيارات الحريّة والديمقراطية وحريّة الرأي والتعبير وحرية الصحافة هي خيارات استراتيجية، وتعدّ من أهمّ المكاسب التي حقّقتها ثورة الحرية والكرامة"، متابعا "نحن ماضون في ترسيخ هذه الخيارات، مهما كانت كلفتها".
وبخصوص ترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة، أكد السبسي أنه ليس من المؤيدين لفكرة رئيس مدى الحياة، وأنه ضد هذا التوجه، وليس من طموحه أن يبقى رئيسا مدى الحياة، رغم بعض الدعوات التي خرجت من شخصيات في حزبه "نداء تونس"، والتي رد عليها في آخر اجتماع بمدينة المنستير بقوله: "سأقول بكل صراحة أنا لا أرغب في أن أترشح مرة أخرى، لأن تونس تزخر بالكفاءات".
وتؤكد هذه المواقف أن قناعات السبسي الديمقراطية استطاعت أن تتغلب على الأخطاء السياسية رغم كثرتها، ونزعات الحكم التي يدفعه إليها البعض، كما استطاع أن يعبر قرنا من الزمن شهد فيه مقاومة الاستعمار وتأسيس حكومة الاستقلال الأولى، ثم خلافات إدارة الحكم والدفاع عن دمقرطة تونس في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وشهد أيضا أهم مرحلة في تاريخ تونس وهي الثورة، وكان أحد أهم الفاعلين فيها، وسيذكر له التاريخ أنه جنّب البلاد، بمعية آخرين، مآل عدد من الدول التي سقطت في العنف.
ويُعرف السبسي بالخصوص بحنكته السياسية وقدرته على قلب الأوضاع وإعادة توزيع الأوراق في مختلف المراحل، ولكن أهم صفاته تتعلق بتجربته الديبلوماسية الكبيرة وعلاقاته الخارجية المتعددة، ولعل أبرز مراحلها تتمثل في نجاحه في تحييد الموقف الأميركي ومنع الإدارة الأميركية من استعمال حق النقض (الفيتو) بعد الاعتداء الإسرائيلي على مدينة حمام الشط التونسية، واستهداف قيادات منظمة التحرير، التي أدت إلى مقتل العشرات بين فلسطينيين وتونسيين سنة 1985، حيث قاد السبسي بصفته وزيرا للخارجية آنذاك، وبحكم وجوده في نيويورك لمتابعة أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة، كل المفاوضات مع الجانب الأميركي والفلسطيني، وبقية الدول، وتمت إدانة إسرائيل بسبب ذلك الاعتداء.
يذكر أن الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة كان قد هدد بقطع العلاقات الديبلوماسية مع الولايات المتحدة إذا منعت إدانة إسرائيل باستعمال حق النقض.
واستطاع السبسي أيضا، إقناع مختلف القوى الدولية الفاعلة بضرورة دعم التحولات الديمقراطية في المنطقة العربية، وحصد تأييد دولي واسع لتونس ولتجربتها، ودافع عن تحالفه مع الإسلاميين من خلال حركة "النهضة"، ونجح في الترويج للنموذج التونسي الذي يمثّل استثناء في المنطقة.