أما الحادثة الثانية، فتعتبر أكثر أهمية ودلالة، وتتمثل في اعتقال نبيل القروي (في 23 أغسطس/آب الحالي)، وإحالته على السجن بإذنٍ قضائي (بتهمة غسل الأموال والتهرب الضريبي). ولأن اسم الموقوف مدرج على لائحة المتنافسين على منصب الرئاسة، في الاستحقاق الانتخابي المقرر إجراؤه في 15 سبتمبر/أيلول المقبل، ولأن استطلاعات الرأي تضعه في مقدمة المرشحين، أو على الأقل ضمن الأوائل الذين يحظون بثقة شريحة كبيرة من الناخبين، فقد تحولت الساحة التونسية إلى مجال واسع لإطلاق التأويلات والتحليلات التي بلغت حد افتراض أسوأ السيناريوهات التي من شأنها أن تهدد بشكل جدي المسار الانتقالي.
وفي هذا السياق، يطرح سؤالان جدّيان: من يقف وراء الحادثتين؟ ومن المستفيد ومن الخاسر منهما؟
اتجهت الأنظار مباشرة إلى رئيس الحكومة يوسف الشاهد، إذ يعتقد الكثيرون بأن تطوراً من هذا القبيل لا يمكن أن يحصل دون علم المسؤول الأول في السلطة التنفيذية. وعلى هذا الأساس، اتهم الرجل بكونه مصراً على استخدام نفوذه وصلاحياته الواسعة، لحسم معركته مع شخصٍ تحداه في أكثر من مناسبة (في إشارة للقروي) ويعمل حالياً بكل قوة لسحب البساط من تحت أقدامه في السباق الرئاسي. يرد أنصار الشاهد على هذه الاتهامات بشدة، مصرّين على نفي وقوفه وراء القضية، خصوصاً أن الأخير تخلى عن صلاحياته كرئيسٍ للحكومة لوزير الوظيفة العمومية كمال مرجان، الذي طلب من وزير العدل محمد كريم الجموسي، التثبت من صحة الإجراءات الخاصة باعتقال المعني بالأمر. لكن على الرغم من ذلك، يبقى السؤال بلا إجابة: لماذا اعتقل القروي الآن، وقبل أسبوع من انطلاق حملة الانتخابات الرئاسية (في الثاني من سبتمبر/أيلول المقبل)؟
لم تجد تبريرات أنصار الشاهد أي صدى لها لدى السياسيين، بمن فيهم الوجوه والجهات السياسية التي لا تثق في رئيس "قلب تونس" ومالك قناة "نسمة" التلفزيونية، وتعتبره خصماً غير مرغوب فيه. ووصف السياسي التونسي، أحمد نجيب الشابي، ما حصل للقروي، بأنه باختصار "اختطاف بالمعنى الحرفي للكلمة، هدفه التخلص من منافس سياسي"، مطالباً بالإفراج الفوري عنه. كما اعتبر المرشح الرئاسي، والرئيس التونسي السابق، محمد المنصف المرزوقي الحادثة أمراً "مسيئاً للديمقراطية، ولصورة تونس".
وفي الحقيقة، فإن خصوم يوسف الشاهد كثر، وهم يتهمونه بالتغول والاستبداد. ويعتبر العديد منهم أنه شخصية "متنمرة تهدد الديمقراطية، وتذكر بأسلوب زين العابدين بن علي". من ذلك، ما قاله المرشح الرئاسي المستقل، رئيس الحكومة الأسبق، حمادي الجبالي، الذي اعتبر أن التونسيين "أمام مشروع استبدادي جديد سيجثم على الصدور ويقطع أنفاس الحرية". وإذا كانت هذه الاتهامات متوقعة من أعداء رئيس الحكومة التونسية المباشرين، مثل حافظ قائد السبسي الذي قال إنه وعائلته أصبحوا يشعرون بالخوف، فإن الشكوك نفسها باتت موجودة لدى حركة "النهضة" على سبيل المثال، التي لم تعد معظم كوادرها تتكتم على احترازها تجاه الرجل وشكّها في نواياه. هذا الأمر تفسره مطالبة رئيس الحركة، راشد الغنوشي، للشاهد بتقديم توضيحات حول إيقاف القروي على الرغم من تحفظاته الكثيرة تجاه الأخير الذي انقلب سريعاً من صديق لـ"النهضة" إلى خصم عنيد، يهدد بقلب الطاولة على الجميع. وتخشى "النهضة" أن يصبح القروي رئيساً لتونس، لما يمثله ذلك من مساس بصورة البلاد، وبمصالحها وبكيفية إدارة شؤونها الداخلية والخارجية مستقبلاً.
هكذا يتبين أن الشاهد هو المتضرر الأكبر من عملية الاعتقال هذه، التي ستزيد من متاعبه، وستقوي في المقابل أحد خصومه المؤثرين (القروي). فاستطلاعات الرأي الأخيرة أظهرت بوضوح تراجع الشاهد لصالح صاحب قناة "نسمة" الذي يسعى حالياً إلى استثمار ما حدث، مؤكدا أنه "سجين سياسي"، وأنه سيكون "الرئيس المقبل لتونس حتى لو بقي في السجن".
أما الخشية اليوم فهي أن يتحول الصراع على السلطة في تونس إلى معركة مفتوحة لا تحكمها ضوابط أخلاقية وقانونية. ما يفتح الباب بدوره أمام تدخل أطراف أجنبية للتأثير على الاستحقاق الانتخابي الذي سيحدد مستقبل البلاد، وما قد يمسّ باستقرار تونس ويضر بمصالحها العليا.