انتقلت فجأة معظم الأضواء الأميركية من كوريا الشمالية إلى إيران. ومن دون سابق إنذار وضعت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ملف العلاقات مع طهران فوق نار حامية. في أقل من 24 ساعة، صدر عن وزارة الخارجية وعلى دفعتين، ما يفيد بأنها تمهّد، ربما جدياً، للانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني. جاء ذلك في تقرير رفعته الوزارة قبل منتصف ليل أمس الأربعاء إلى الكونغرس. أعقب ذلك بعد ساعات، مؤتمر صحافي عقده وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، عن الموضوع.
اعترف التقرير بأن إيران تفي بالتزاماتها تجاه الاتفاق النووي، لكنه أخذ عليها أنها ما زالت في مقدمة الدول الراعية للإرهاب. وقررت الإدارة مراجعة ملف الاتفاق والعقوبات. قرار أثار الاهتمام، على الأقل لكونه الأول من نوعه في عهد ترامب.
ومع أن الكلام الأميركي عن دعم إيران للارهاب ليس بجديد، وما ورد بشأنه أتى في سياق تقرير روتيني مطلوب من وزارة الخارجية يرفع إلى الكونغرس كل ثلاثة أشهر، لإطلاعه على مدى وفاء إيران بشروط الاتفاق، إلا أنّ مسألة المراجعة أثارت علامة استفهام، ما لبثت أن تحولت إلى جدل ساخن اتسم بالقلق؛ في ضوء ما قاله تيلرسون في مؤتمره الصحافي.
اللافت أن المؤتمر الذي أعلن عنه قبل أقل من ساعتين، قدم فيه الوزير عرضاً شاملاً لمآخذ الإدارة على سلوك إيران السابق والراهن؛ من "دعم للإرهاب إلى تأجيج النزاعات الإقليمية" في العراق وسورية واليمن ودورها في لبنان ودعم "حماس"، وانتهاء بإمكانية انتقالها إلى "ذات الطريق التي سلكتها كوريا الشمالية"، وبما يؤدي إلى امتلاكها لاحقاً للسلاح النووي.
وأضاف بأن ذلك يستدعي اعتماد سياسة شاملة "تتصدى لكل هذه التهديدات"، بل تتصدى أيضاً للاتفاق النووي الذي لا يؤدي سوى إلى "تأجيل تحقيق إيران لهدفها" النووي. وللحيلولة دون ذلك، أوضح تيلرسون بأن "إدارة ترامب لا نية لديها لترحيل هذه المسؤولية للإدارة الأميركية القادمة"، وكأنها تعتزم مواجهة هذا التحدي، حتى ولو اقتضى الأمر الانسحاب من الاتفاق "لأننا لا نرى أنه من الحكمة التعامل مع إيران بهذا الشكل"، وفق رده على سؤال بخصوص الاتفاق.
كلام تيلرسون، والإطار الذي اعتمده في العرض، بدا أشبه بمرافعة للدفاع عن موقف قادم ينسف صيغة النووي ويفتح باب المواجهة الإقليمية مع طهران، لا سيما وأن الرئيس ترامب سبق له مراراً أن وصف الاتفاق بأنه "سيىء جداًّ بل الأسوأ" في تاريخ الاتفاقيات. كما سبق أن أعرب مع إدارته عن الرغبة في الانقلاب على توجهات الرئيس السابق، باراك أوباما، والعودة إلى تعزيز العلاقات مع الحلفاء في المنطقة، ضمن سياسة التصدي للتمدد الإيراني في أرجائها. وقد صدرت تعبيرات مبكرة في هذا الخصوص، كان أبرزها شبه الإنذار الذي وجهه الجنرال، مايكل فلين، قبل إقالته، فقد تكون طهران الساحة الخارجية البديلة لترامب.
وتوارى حديث الإدارة عن سورية، ربما بسبب العامل الروسي. أما كوريا الشمالية، فيبدو أن بكين تولت أمر لجمها حتى الآن وإلى حين، والخيارات العسكرية فيها معلقة.
لكن جهات عديدة تحذر من التمادي في هذا التوجه ومن أن عواقبه خطيرة، منها "الإطاحة بصدقية أميركا"، إذا جرى الانسحاب من اتفاقية تقر الإدارة بأن إيران تقوم بتطبيقها حسب المطلوب، ومنها أيضاً أن الأطراف الدولية الأخرى الموقعة على الاتفاق لن تجاري واشنطن في وقف التعامل مع إيران . يضاف إلى ذلك، أن التنصل من الاتفاقية لا يحظى بدعم كاف في الكونغرس ولا في مطابخ الرأي ونخب السياسة الخارجية، حتى وزير الدفاع الذي لا يأمن طرف إيران، سبق أن قال إنه لا ضرورة للانسحاب من الاتفاق، طالما بقيت طهران ملتزمة بشروطه، وقد لا يقوى الرئيس على تجاوز هذه المحاذير.
أمام ذلك، لا يستبعد أن تكون هذه القفزة مجرد مناورة، ربما لتغيير الحديث عن التعثر الذي تعيشه الإدارة، أو ربما بهدف تعزيز كفة المرشحين الرئاسيين المتشددين في إيران، على حساب الرئيس الحالي، حسن روحاني، وبما يضمن فوز أحد المناوئين منهم للاتفاق النووي، وبما يسهل على ترامب الانسحاب منه.
ما هو مؤكد هذه الأيام في واشنطن، أن إدارة ترامب تتصرف بطريقة لا تخضع للقواعد المرعية، ليس فقط في صياغة المواقف، بل أيضاً في سرد الوقائع، فمع بداية ما كاد يتحول إلى حرب مع كوريا الشمالية، صرح الرئيس بأن الأسطول الأميركي في المنطقة يرابط قرابة المياه الكورية، بناء على أوامره. بعد يومين تبين أن هذا الأسطول كان يبحر باتجاه أستراليا على بعد 3500 ميل من الشواطئ الكورية.
يتصرف ترامب على حد تعبير "نيويورك تايمز"، وفق "قواعد ترامب"، ما يريده على ما يبدو شيء واحد: أن يبقى الآخرون منشغلين بسؤال "ماذا يريد ترامب"؟