انتقل تحقيق مجلس النواب الأميركي حول "أوكرانيا غيت" من مرحلة جمع المعلومات الاستخباراتية إلى استكشاف الاحتمالات القانونية لعزل الرئيس الأميركي دونالد ترامب. هذه المعارك المستمرة بين مجلس النواب والبيت الأبيض تطغى على السباق الرئاسي، وقد تُحدد مسار انتخابات العام 2020، في ظل تحقيق الكونغرس في شبهات محتملة لسوء استخدام السلطة وراء ربط ترامب استمرار المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا بإجراء كييف تحقيقاً في تعيين هانتر، نجل المرشح الرئاسي الديمقراطي ونائب الرئيس السابق جو بايدن، في مجلس إدارة شركة الغاز الأوكرانية "بوريسما".
وظهرت هذه الفضيحة في سبتمبر/أيلول الماضي، بعد تسريب الإعلام شكوى رفعها موظف في وكالة الاستخبارات المركزية (سي أي أيه) إلى المفتشة العامة للاستخبارات كورتني سيمونز، التي حولتها إلى مدير الاستخبارات القومية بالوكالة جوزيف ماغواير الذي لم يتحرك حيال هذا الملف، وبالتالي قامت سيمونز بتحويل الشكوى إلى الكونغرس وبعدها أحالتها كقضية جنائية إلى وزارة العدل.
وفي 24 سبتمبر، بدأ مجلس النواب تحقيقاً على ثلاثة مسارات في لجان الاستخبارات، والشؤون الخارجية، والرقابة والإصلاح. وتخللت هذه المرحلة معارك قانونية حول مشروعية مجلس النواب في استدعاء مسؤولين أميركيين للتحقيق في جلسات استماع أو طلب وثائق رسمية سرية متعلقة بـ"أوكرانيا غيت". وقد ظهرت في تلك الفترة نجومية السفيرة الأميركية السابقة لدى أوكرانيا ماري يوفانوفيتش، التي فُصلت من منصبها في مايو/أيار الماضي، لأنها رفضت تسهيل فكرة مقايضة 400 مليون دولار من المساعدات الأميركية بإعلان كييف عن إجراء تحقيق حول هانتر بايدن، بالإضافة إلى مسؤولة مجلس الأمن القومي السابقة فيونا هيل، التي اتهمت البيت الأبيض باتباع سياسة محلية بدل سياسة خارجية تمثل المصالح الأميركية. وفي المقابل، كشفت هذه التحقيقات دور غرفة العمليات في إدارة ترامب للضغط على السلطات الأوكرانية، أو ما يسمى بـ"الأصدقاء الثلاثة"، أي السفير الأميركي لدى الاتحاد الأوروبي غوردون سوندلاند ووزير الطاقة الذي قدم استقالته أخيراً ريك بيري والمبعوث الأميركي إلى أوكرانيا كورت فولكر. غرفة العمليات هذه كانت بقيادة محامي ترامب المثير للجدل رودي جولياني، الذي كان يتكلم مع كييف نيابة عن الرئيس، وكان من المحرضين على إقصاء يوفانوفيتش. هذا التورط ينطبق أيضاً على وزير العدل وليام بار ووزير الخارجية مايك بومبيو الذي يواجه شبه انتفاضة من الدبلوماسيين نتيجة قبوله بتسييس عمل وزارته.
وبعد جلسات استماع شملت 12 شاهداً في مجلس النواب، بدأت هذا الأسبوع صياغة أول مسودة لمشروع قرار عزل، بالتزامن مع انعقاد اللجنة القضائية لجلسات استماع لطرح تساؤلات قانونية حول احتمالات عزل الرئيس. هدف اللجنة القضائية سيكون تحويل خلاصات واستنتاجات لجنة الاستخبارات إلى لغة قانونية، تكون محور مسودة العزل قبل التصويت عليها في مجلس النواب. البيت الأبيض لمح إلى أنه قد يشارك في جلسات اللجنة القضائية عبر ترامب شخصياً أو مستشاره القانوني، لكنه عاد وتراجع عن هذه الخطوة بعد دعوة رسمية من رئيس اللجنة القضائية في مجلس النواب جيري نادلر. التحدي أمام الديمقراطيين ليس إيجاد صيغة للعزل تكون مقبولة في مجلس النواب، بل في مجلس الشيوخ أيضاً، حيث يحتاج الديمقراطيون إلى 19 صوتاً جمهورياً لتمرير العزل.
بعد انتهاء الديمقراطيين من مرحلة النقاشات الدستورية والتصويت على مشروع قانون العزل، تتحول الأنظار إلى مجلس الشيوخ، حيث ستكون الكرة في ملعب الجمهوريين لفرض قواعد الاشتباك واستدعاء من يريدون من الشهود لمحاولة إظهار أن "أوكرانيا غيت" هي محاولة ديمقراطية للانقضاض على الرئيس، تقودها ما تسمى بـ"الدولة العميقة" من داخل الحكومة الفيدرالية. ترامب يحاول إرضاء أسماء جمهورية في مجلس الشيوخ لتقف معه في هذه المعركة، بحيث وافق على طلب حليفه السيناتور ليندسي غراهام بإبقاء القوات الأميركية في سورية، ويحاول التقرب من السيناتور المعتدل ميت رومني لتفادي انشقاقات بين الجمهوريين المعتدلين.
واستناداً إلى نسخة من 123 صفحة تم تسريبها إلى الإعلام، يرتكز دفاع الجمهوريين على اعتبار أن الحزب الديمقراطي فشل في إيجاد أدلة تشير إلى أن الرئيس ارتكب جنحة تستحق عزله، ووصف جهود عزل ترامب بأنها "حملة مدبرة للانقلاب على نظامنا السياسي"، وأن الحزب الديمقراطي يحاول "عزل رئيس منتخب حسب الأصول بناءً على اتهامات وافتراضات بيروقراطيين غير منتخبين". وتقول رواية دفاع الجمهوريين إن الرئيس كان يتصرف حرصاً على هواجسه حيال الفساد في أوكرانيا، وأنه لم يقايض أو يضغط على كييف للتحقيق بقضية بايدن. لكن الوقائع تشير إلى غير ذلك، لا سيما الاتصال الشهير بين ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في 25 يوليو/تموز الماضي الذي حرك التحقيق في هذه القضية.
محور النقاشات القانونية سيكون حول تفسير المادة الثانية من القسم رقم أربعة في الدستور الأميركي، التي تقول إنه يمكن عزل الرئيس في حالة "الإدانة بالخيانة العظمى والرشوة وغيرها من الجرائم والجنح العالية". تفسير الخيانة العظمى والرشوة لا خلاف قانونيا عليهما، لكن هناك اجتهادات في تفسير عبارة "جرائم وجنح عالية"، لأن الدستور لم يتطرق إلى ما هية الجرائم والجنح التي قد يواجهها الرئيس. الورقة الجمهورية الأقوى تتمثّل بتفسير وزارة العدل لهذه العبارة الدستورية منذ فضيحة "ووتر غايت" في العام 1973 حين أعلن مكتب المستشار القانوني في وزارة العدل حينها أنه لا يمكن توجيه الاتهامات في المحاكم لرئيس في منصبه، وأصبح هذا التفسير عرفاً قانونياً، لا سيما أن المحكمة الدستورية العليا لم تُبدِ بعد رأيها في تفسير هذه العبارة الدستورية. وقامت وزارة العدل في العام 2000 بإصدار مذكرة قانونية خلال ولاية الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، أعادت التأكيد على "حصانة الرئيس دستورياً" من أي محاكمة مدنية، على اعتبار أن مثل هذه المحاكمة "تنتهك الفصل الدستوري للسلطات" في النظام الفيدرالي. تفسير الدستور، عامي 1973 و2000، ملزم لموظفي وزارة العدل، وهذا ما منع المحقق الخاص في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية في العام 2016 روبرت مولر من توجيه أي اتهامات إلى ترامب، فيما اكتفت وزارة العدل بإحالة التحقيق إلى الكونغرس لإبداء الرأي فيه.
استخدام ترامب لقنوات خلفية خارج الدبلوماسية التقليدية، عبر استخدام أموال دافعي الضرائب لأسباب انتخابية، يعتبر سقوطاً أخلاقياً للسياسة الخارجية الأميركية، لكن هذا لا يعني أن العزل محتوم، لأن العزل مسألة سياسية وليست جنائية. وفي نهاية المطاف ليس لدى الديمقراطيين أكثرية في مجلس الشيوخ (67 صوتاً) لفرض عزل الرئيس، في ظل تماسك الصفوف بين الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس. "أوكرانيا غيت" أصبحت معركة سياسية يستغلها الحزبان، الديمقراطي والجمهوري، لكن ليس من دون مخاطر على الجانبين. ترامب يستغل تحقيق الكونغرس لتحفيز قاعدته الشعبية، وجمع تبرعات انتخابية غير مسبوقة عبر تصوير نفسه بأنه ضحية هجوم ليبرالي عليه، لكن هذا قد يكلفه إبعاد الجمهوريين المعتدلين والمستقلين عنه، فيما يراهن الديمقراطيون على ورقة العزل إلى حد كبير، وهذا قد يكلفهم الانتخابات، لأنه مسار يصرف الأنظار عن انتقاد مجمل سياسات ترامب بشكل جدي، وعن بلورة برنامج ديمقراطي بديل للحكم.