لقاء جعجع وفرنجية: مصالحة لآخر فصول الحرب الأهلية اللبنانية

14 نوفمبر 2018
برعاية البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي (حسين بيضون/العربي الجديد)
+ الخط -

بعد 28 عاماً من انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، أقفل أحد أهم الملفات السوداء في تاريخ لبنان الحديث بين "القوات اللبنانية" برئاسة سمير جعجع، وتيار "المردة" برئاسة سليمان فرنجية، في مشهدية بدت بعيدة عن الحسابات السياسية الداخلية، وركزت على الجانب الإنساني فقط، ليقفل بذلك آخر ملفات هذه الحقبة، بعد أيام معدودة من إقرار مجلس النواب اللبناني قانون المفقودين والمخفيين قسراً في مجلس النواب اللبناني. 

واختيرت بكركي مقر البطريركية المارونية، لاحتضان هذا الحدث، وبرعاية البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، حدد موعدها بعد حوار مكثف على مدار أشهر بين الجانبين، تخلله توافق تام على إبقاء الحدث في شقه الإنساني، وتأكيد عدم ربط الحدث بأي من الحسابات السياسية الداخلية. 

وكانت مجزرة إهدن ارتكبت خلال الحرب الأهلية اللبنانية عام 1978، ونفذها حزب "الكتائب" عبر "القوات اللبنانية" التي كانت الذراع العسكرية للجبهة اللبنانية، التي كانت تحالفاً يضم عدداً من المليشيات المسيحية. 

عندها، هاجمت قوة بقيادة سمير جعجع (رئيس حزب القوات اللبنانية حالياً) بلدة إهدن (شمال)، لكنه أصيب قبل الوصول إلى هناك، فتولى أحد القادة الميدانيين إكمال تنفيذ العملية، التي راح ضحيتها طوني فرنجية، نجل الرئيس اللبناني الأسبق سليمان فرنجية، ووالد سليمان فرنجية (الابن)، الذي كان قائداً لمليشيا "المردة"، ومعه زوجته فيرا قرداحي، وابنته جيهان البالغة من العمر آنذاك سنتين ونصف السنة وأكثر من ثلاثين من أنصاره.

وسبق اللقاء، الذي يحلو لكثيرين وصفه بـ"التاريخي" في لبنان، خطوات على الأرض بين الحزبين، إذ التقى فرنجية بعائلات الضحايا الذين سقطوا مع والده في المجزرة لمباركة المصالحة وطي صفحة الماضي، فيما جال النائب السابق فادي كرم على عائلات ضحايا "القوات" في قضاء الكورة المجاور لقضاء زغرتا، حيث معقل آل فرنجية، كرد فعل على المجزرة، كما هجرت بعض العائلات التي كانت محسوبة على "القوات"، أيضاً لمباركة المصالحة. 

وتعتبر المصالحة بين "المردة" و"القوات" آخر المصالحات منذ انتهاء الحرب الأهلية، وخصوصاً أن الملفات الأخرى أغلقت بطرق عديدة وعلى مراحل، بين "الكتائب" و"التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" وتيار "المردة" وحزب "الوطنيين الأحرار"، لكن مجزرة إهدن والمصالحة بين "القوات" و"المردة" كانتا دوماً تعتبران المهمة الأكثر صعوبة، نظراً إلى تداخل العوامل الإنسانية والوجدانية فيهما، وهو ما بدا واضحاً خلال المصافحة بين جعجع وفرنجية.


كما تعتبر لهذه المصالحة خصوصية على صعيد محافظة الشمال في لبنان، وخصوصاً أن قضاء زغرتا يجاور قضاء بشري، الذي يعتبر معقلاً لـ"القوات اللبنانية"، كما أن الحزبين هما الأكثر انتشاراً في شمال لبنان، وفق أرقام الانتخابات النيابية التي جرت قبل أشهر. وشهدت أقضية الشمال منذ الثمانينيات مجازر عديدة بين الطرفين، كما تخللها الكثير من الإشكالات منذ خروج جعجع من السجن عام 2005، وخصوصاً أن المرحلة التي تلت شهدت انقساماً عمودياً في البلاد بين فريق "8 آذار" الذي ينتمي إليه "المردة"، وفريق "14 آذار" الذي ينتمي إليه "القوات". 

وكان اللقاء قد حدد موعده قبل شهر، بعدما طلب الراعي أن يكون في بكركي، بدل عقده في أحد الأديرة في شمال لبنان، ولبى الطرفان الطلب، وخصوصاً أنه يعطي بعداً أعمق للمصالحة مسيحياً.

وبعد المصافحة التاريخية بينهما، عقدت خلوة بين الراعي وجعجع وفرنجية، قبل أن يجتمع الوفدان، وتتلى ما أطلق عليها تسمية وثيقة بكركي بين "القوات اللبنانية" وتيار "المردة"، التي انطلقت من الخلفية التاريخية، ومسار المصالحات الذي شهده لبنان في العقدين الأخيرين، "الذي يدعم وحدة لبنان، ترسيخاً لخيار المصالحة الثابت والجامع، باعتبارها قيمة مسيحية لبنانية مجردة".


وأكدت الوثيقة أن المصالحة تأتي بصرف النظر عن الخيارات السياسية، ومن دون حسابات سياسية قد تتبدل تبعاً للظروف، كما أكدت أن الاختلافات السياسية على حالها، وأن الالتقاء والحوار ليس مستحيلاً بمعزل عن السياسة وتشعباتها، مع التشديد على ضرورة حل الخلافات عبر الحوار العقلاني الهادف لتحقيق مصلحة لبنان ودور المسيحيين، بعيداً عن أي مكاسب سياسية ظرفية، وعن البازارات السياسية، ولا تسعى لأي تبديل في مشهد التحالفات القائمة، وخصوصاً أنها ليست وليدة اللحظة، بل تتويج لحوارات ولقاءات.

ويأتي هذا التشديد على خلفية الحديث عن أن التقارب بين "القوات" و"المردة"، جاء على خلفية تباعد كل من الطرفين عن "التيار الوطني الحر"، واعتبار البعض أن هذه المصالحة موجهة ضد "التيار" ورئيسه جبران باسيل. 

وعلى الرغم من تأكيد الوثيقة فصل المصالحة عن الواقع السياسي الحالي، ووضعها في سياقها التاريخي والإنساني والوجداني، بدت الوثيقة واضحة أيضاً في الحديث عن فتح صفحة جديدة والتنسيق بينهما سياسياً وإنمائياً، عبر "التلاقي والابتعاد عن منطق الإلغاء"، في إشارة ضمنية إلى "التيار".


وشددت الوثيقة على أن "زمن العداوات قد ولّى، وجاء زمن التفاهم والحوار والاتعاظ"، كما دعت إلى "تضييق الخلاف السياسي قدر الإمكان لبدء تعاون صادق وبنّاء نابع من المسؤوليات الوطنية لتحقيق آمال المواطنين".

وبدا واضحاً تفنيد الوثيقة الدور المسيحي، وخصوصاً في شمال لبنان، الذي وصفته بأنه "الحصن المسيحي اللبناني"، كما أشارت إلى ضرورة المصالحة بوصفها "دفاعاً عن الكرامة والوجود والمصير"، كما أجرت قراءة نقدية للماضي وما تخلله، وضرره عموماً، وتحديداً مسيحياً، مشيرة إلى أنه "سبب الإحباط والتفرقة، وانعكس على وضعيتهم السياسية والديمغرافية والاجتماعية"، وإلى ضرورة تخطي هذا الواقع السلبي مسيحياً، وطي صفحة الماضي الأليم والتزام قواعد الديمقراطية لـ"الانطلاق صوب مستقبل واعد".