مشهد لا يزال عالقاً في أذهان اليمنيين الذين يرون أن موقف هادي في ذلك اليوم، والسماح بسقوط عمران، بوابة صنعاء الشمالية وجدار حمايتها الأول، كانا بمثابة الخطوة الأولى التي فتحت خط العبور باتجاه اجتياح الحوثيين العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول من العام نفسه، في مثل هذا اليوم قبل 4 سنوات، لتتأسس مرحلة سياسية وعسكرية في تاريخ اليمن، الذي أصبح واقعاً تحت سلطة الجماعات المسلحة والقوى الخارجية، فيما تغيبت شرعية الدولة وسلطة الرئيس، الذي تتباين الآراء إزاء مسؤوليته عما آلت إليه الأوضاع في البلاد وتفريطه بالشرعية.
هكذا يظهر أن هناك التباسات كثيرة في عقل هادي بخصوص مفهوم الشرعية، خصوصاً حين يُستذكر بأنه هرب من منزله في صنعاء في ظروف غامضة في فبراير 2015، وهو واقع تحت حصار الحوثيين، وحين وصل إلى عدن أعلن من هناك أنه سيعيد الشرعية إلى صنعاء. وللمفارقات هنا، أنه في السنوات الأربع الأولى للوحدة بين شمال اليمن وجنوبه، كان عبد ربه منصور هادي وزيراً للدفاع، وتحت إمرة الرئيس الراحل علي عبد الله صالح حين قامت حرب صيف 1994، ليعلن هادي رغبته في عودة "الشرعية" إلى الجنوب، بعد أن أعلن الرئيس "الجنوبي"، في حينها علي سالم البيض، قرار الانفصال ونهاية الوحدة بين الشطرين؛ بمعنى أن هادي، الذي طالب بعودة الشرعية إلى الجنوب في ذلك الزمن، عاد ليطالب بعودة الشرعية إلى الشمال مع اختلاف موقعه في الحالتين.
ولا يمكن فهم هذا الوضع الذي وجد هادي نفسه فيه، أو أوجده لنفسه كما يقول البعض، من دون العودة إلى بدايات تسلمه السلطة بموجب المبادرة الانتقالية الخليجية بعد ثورة 2011، على الرغم من كافة الصلاحيات التي كانت في يده، إضافة إلى التضامن ووقوف الدول الكُبرى معه. لكن هادي لم يستطع الاستفادة من ذلك على نحو كامل، حتى اتهمه البعض بأنه بقي عالقاً في دور النائب وليس الرئيس. وكان رئيس الحكومة السابق، محمّد سالم باسندوه، يشتكي على نحو دائم من أن الرئيس عبد ربه منصور هادي لم يقدر بعد على التخلّص من دور نائب رئيس الجمهورية الذي بقي فيه نحو 17 سنةً. لقد كانت غالبية المساحة الزمنية لاجتماعاته مع كبار رجال الدولة عبارة عن شكاوى من سلطة علي عبد الله صالح الذي لم يترك له المجال مفتوحاً كي يُمارس دوره.
ويقول أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة صنعاء، عادل الشرجبي، في حديثه مع "العربي الجديد"، إن الحقيقة تقول إن هادي لا يزال يلعب دور النائب، لكن هذه المرة نائباً لعلي محسن الأحمر، فهادي "لم يستطع الخروج من عباءة نظام الرئيس الراحل، ولا يستطيع ممارسة السلطة إلا بالطريقة نفسها التي كان يمارسها ذلك الراحل". لكن يُستعاد الحديث في كل مرّة حول الفرص التي أهدرها هادي ولم يقدر على الإمساك بها حتى يلعب دور الرئيس على نحو كامل، بداية من الأعداد الضخمة من الناس الذين خرجوا للمشاركة في عملية استفتاء على شخصية هادي ليصبح الرئيس الانتقالي الأول لليمن بعد انتفاضة الشباب في ربيع العام 2011. لقد أعاد على نحو واضح صورة نظام التوريث الذي انتفض ضده شباب الثورة، وبدلاً من صورة النجل أحمد علي عبد الله صالح صعدت صورة النجل جلال عبد ربه منصور هادي.
بدوره، يقول الكاتب والصحافي اليمني عبد القادر عبد الله سعد، لـ"العربي الجديد"، إن "غالبية الشعب اليمني كانت مع عبدربه، والخليج والمجتمع الدولي يدعمانه، وكان يستطيع إصدار أي قرار ويفرضه، وتغيير أي قائد عسكري ومسؤول فاسد تابع لصالح، وفي حالة رفض تنفيذ قراراته سيخرج الشارع معه يدعمه ويسانده، لكن اتضح أن هادي ضعيف شخصية وليس صاحب قرار، أو كما قالت عنه صحيفة واشنطن بوست، بعد توليه رئاسة الجمهورية: شخصية ضعيفة ومهزوزة وليست لديه ثقة بنفسه". وأضاف عبد القادر أن "هادي خذل الجميع عندما كان في صنعاء، وكان يبدو وكأنه يتلقى الأوامر والتوجيهات من صالح، والقرارات الصائبة التي أصدرها كانت تأتي متأخرة وتصبح غير مجدية، وحتى بعد خروجه من صنعاء وذهابه إلى عدن لم يستطع الخروج من عباءة صالح. وحالياً، يعمل هادي على تدوير قيادات صالح وإعادتها لمناصب سياسية واقتصادية، كتعيين حافظ معياد رئيساً للجنة الاقتصادية، ما يؤكد أنه لا يزال في حقبة صالح ولم يخرج عن سياقها القديم في إدارة شؤون البلاد". وأشار إلى أنه ظهر أخيراً، على نحو واضح، اعتماد هادي على رجال صالح، مثل وزير الإعلام الأسبق، حسن اللوزي، في الوفد الوطني الذي تم تشكيله للمشاورات في جنيف.
في السياق نفسه، يقول الناشط اليمني حسين مقبل، المقيم في ألمانيا، إنه من سوء حظ اليمن واليمنيين أن تقوم جماعة الحوثي بالانقلاب على مفاصل الدولة، في وقت كانت البلاد تحت حكم هش ونظام لم تستوِ أركانه، خصوصاً بعد فترة وجيزة من تسوية سياسية كانت نتاجاً لثورة شبابية تهدف إلى بناء دولة مدنية، وفي وقت لم يكن هناك أي سلطة على قيادات الجيش التي كانت لا تزال بيد النظام السابق. ويضيف أن المؤسف في الأمر أن هذه الكارثة حدثت ولم يكن يمكن لأحد الوقوف بوجهها، عدا رجل الدولة الأول الذي يعوّل الجميع على شرعيته، ولكن لسوء الحظ أيضاً خابت آمال اليمنيين فيه بعد أربع سنوات صراع، إذ إنه لم يقدم شيئاً بل إنه يعد جزءاً من المشكلة. ويقول مقبل: "بالمختصر، أصبح الشعب الآن يعاني من كلا الطرفين، الشرعية ممثلة بهادي وما تقوم به من أعمال لا ترتقي إلى مستوى المسؤولية، ومن انقلاب ممثل بعصابة الحوثي، واللذين يؤديان الدور ذاته في إنهاك اليمن بحرب الخاسر الأكبر فيها هو الشعب".
في المقابل، يقول صحافي يمني تابع مراحل حكم هادي في السنوات الأخيرة، وتحفظ عن ذكر اسمه بسبب وجوده في العاصمة اليمنية صنعاء، في حديث مع "العربي الجديد"، إن المآخذ كثيرة على أداء الرئيس اليمني منذ تسلمه المرحلة الانتقالية، وربما كان بالإمكان أن تكون إدارته للحكم أفضل، لكننا يجب ألا ننسى الظروف التي تسلم فيها السلطة سواء داخل اليمن أو في المحيط العربي. ويوضح الصحافي اليمني أن هادي، الذي اختير لشغل المنصب الأول في الدولة في زمن الثورات العربية، كان يعيش تحت أكثر من ضغط عند تسلمه السلطة في 2012؛ فمن جهة وجد نفسه أمام تركة علي عبد الله صالح الممتدة لأكثر من 30 عاماً، تحكّم فيها عبر رجالاته في كافة مؤسسات الدولة، وبالتالي لم يكن سهلاً التخلص منهم، خصوصاً أن صالح لم يتم خلعه بل تنازل عن السلطة بموجب المبادرة الخليجية، واحتفظ لنفسه ولحزبه المؤتمر الشعبي العام بالعديد من المكاسب السياسية. ويجب ألا ننسى أن كل قرار إقالة اتخذه هادي لشخصية بارزة من مرحلة حكم صالح، خصوصاً في المؤسسة العسكرية، استغرق التحضير له فترة طويلة، لأن هادي لم يكن يريد أن يزعزع الاستقرار الأمني والسياسي في البلاد لإدراكه مدى هشاشة الوضع. ويوضح الصحافي المؤيد لهادي، أن الظروف لم تساعد الرئيس، لأنه منذ تسلمه السلطة في 2012 حاولت جميع القوى السياسية استغلال المرحلة الانتقالية لتحقيق مكاسب على حساب الأطراف الأخرى، لكن ما لم يكن في الحسبان أن يلجأ صالح إلى التحالف مع الحوثيين، الأعداء السابقين له، ويهيئ لهم الظروف لاجتياح صنعاء في 2014. وشكّل هذا الأمر نقطة تحول، لأن الضغط على هادي انتقل إلى مرحلة جديدة أشد خطورة، لأنه أصبح ضغطاً عسكرياً وليس فقط سياسياً. والأهم أن الأمور تسارعت بشكل لم يكن هادي يستطيع التعامل معها، لأنه لم يتمكن من تثبيت دعائم حكمه خلال هذين العامين، وهي المدة الفاصلة بين تسلمه الحكم وبداية التحركات العسكرية للحوثيين.
أما بعد فراره من الإقامة الجبرية في صنعاء، ومن ثم توجهه إلى عدن ولاحقاً الانتقال إلى خارج اليمن، بدأت المرحلة الأشد خطورة التي واجهها هادي، إذ لم يمض وقت طويل على إطلاق "عاصفة الحزم" من قبل التحالف العربي، بذريعة إعادة شرعية هادي، حتى بدأت تتكشف أهدافها الحقيقية، تحديداً الأهداف التوسعية الإماراتية، وبذلك وجد هادي نفسه أمام ضغوط داخلية في الشمال حيث الحوثيون، كما في الجنوب حيث الانفصاليون المدعومون من الإمارات، وأخرى خارجية، تحديداً من الرياض وأبو ظبي، وهو غير قادر على التخلص منها جميعاً ليصبح الآن أقرب إلى رهينة.