براءة بديع في حضور بومبيو: "الوجه الآخر" لتحريات الشرطة

13 يناير 2019
صدور حكم البراءة لا يعني ترك بديع (مصطفى الشامي/الأناضول)
+ الخط -
بينما كان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مجتمعاً مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في قصر الاتحادية الرئاسي بالقاهرة، صباح الخميس الماضي، كانت محكمة جنايات القاهرة تصدر أول حكم براءة منذ عام 2013 لمصلحة مرشد جماعة "الإخوان" المحكوم عليه في قضايا أخرى بالإعدام والسجن المؤبد، محمد بديع، مع عدد من قيادات الصفين الأول والثاني في الجماعة، أبرزهم عصام العريان وباسم عودة ومحمد البلتاجي وصفوت حجازي والحسيني عنتر، فيما يُعتبر أول حكم بالبراءة في قضية متهم فيها بديع وهؤلاء القياديون، بعد سلسلة طويلة من أحكام الإدانة الابتدائية والباتة.

المثير أن الحكم ليست له أي آثار على خروج هؤلاء القياديون من السجون، فهم مدانون بأحكام ربما تؤدي لبقائهم في السجن حتى الوفاة، كما حدث مع مرشد جماعة "الإخوان" السابق محمد مهدي عاكف. كما أن الحكم يمثّل رسالة للخارج مفادها أن المحاكم المصرية كما تصدر أحكاماً بالإدانة، فهي تصدر أحكاماً بالبراءة، في وقت تتعدد فيه الانتقادات السياسية والدبلوماسية والحقوقية الغربية والعالمية للقضاء المصري باعتباره مسيساً ويضفي شكلاً قانونياً على عشرات الآلاف من حالات الاعتقال السياسي لمعارضي السيسي من شتى التيارات، خصوصاً "الإخوان" وحلفاءهم الإسلاميين أو من سبق له الانتماء للجماعة.

وبالتالي فإن صدور هذا الحكم لا يعدو كونه ذراً للرماد في عيون المتابعين، بل يحمل التوقيت شبهة صدوره بتلك الصورة تحسباً لهجوم الإعلام الأميركي على السيسي في إطار تغطيته لزيارة بومبيو إلى القاهرة. فالأخير لم يترك فرصة إلا وكال المديح للسيسي باعتباره زعيماً متمكناً من الأوضاع في مصر وحليفاً يمكن الوثوق فيه والرهان عليه، فضلاً عن الاحتفاء الكبير بافتتاحه كاتدرائية العاصمة الإدارية الجديدة في نفس يوم افتتاح مسجد "الفتاح العليم"، تماشياً مع وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب له بأنه "يقدّم نموذجاً للتعايش الإسلامي المسيحي وحرية ممارسة الشعائر الدينية".

وجاءت حيثيات الحكم ببراءة بديع لتدعم هذه القراءة السياسية له من منظور براغماتي بحت، بعيداً عن القواعد القانونية والسوابق القضائية المصرية، فالتحريات الشرطية التي قال رئيس المحكمة المستشار معتز خفاجي إنها "غير كافية لتحقق الإدانة" وإنها "أشارت إلى حدوث الفعل وليس تورط المتهمين في ارتكابه"، ووصفها بأنها "غير مستندة لمصادر معروفة أو موثوقة" و"مرسلة قاصرة"، سبق أن استند إليها القاضي نفسه وغيره من القضاة وحتى دوائر محكمة النقض، في العديد من الأحكام ضد قيادات وأعضاء ومؤيدي "الإخوان".

التحريات كدليل وحيد للإدانة
الواقعة محل القضية، وهي أحداث ميدان مسجد الاستقامة في الجيزة، تتضمن بشكل أساسي جرائم: التجمهر، والإرهاب، والشروع في القتل، واستعراض القوة، وتشكيل عصابة مسلحة لمهاجمة المواطنين، ومقاومة السلطات، وحيازة أسلحة نارية، والانضمام لـ"جماعة الإخوان الإرهابية"، شأنها شأن العشرات من الوقائع والأحداث الأخرى التي حصلت في الفترة بين 26 يونيو/حزيران و14 أغسطس/آب 2013، أي بين عشية الانقلاب على الرئيس المعزول محمد مرسي، وحتى فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة وتوابع الفض في العديد من المناطق.

ووجّهت النيابة العامة، مدفوعة بتقارير جهاز الأمن الوطني في تلك الأحداث المختلفة التي شارك فيها آلاف المحتجين، الاتهامات للمئات ممن تيسر للشرطة ضبطهم في أماكن وقوع الأحداث بتهمة التجمهر أو إطلاق النار أو الشروع في القتل أو اقتحام أقسام الشرطة، حسب كل حالة على حدة. كما وُجّهت الاتهامات لقيادات الصفين الأول والثاني من الجماعة، وعلى رأسهم بديع والعريان والبلتاجي، بحجة أنهم "حرضوا" على ارتكاب تلك الجرائم، على الرغم من ثبوت عدم تواجدهم في أماكن الوقائع، وعدم اشتراكهم وعدم اتفاقهم جنائياً عليها.
وعلى الرغم من الدفع مراراً من قبل محامي الجماعة ببطلان التحريات التي تزعم مسؤولية بديع تحديداً، ومعه قيادات الصفين الأول والثاني من أعضاء مكتب الإرشاد ومجلس شورى الجماعة، عن كل الاشتباكات والتظاهرات العفوية التي حدثت، فإن المحاكم المصرية مضت في طريقها لإدانتهم جميعاً بجرائم مختلفة المكان، ومتحدة الزمان، ومعظمها وقعت في مناطق بعيدة عن محيط ميدان رابعة العدوية الذي كانوا يقيمون به أثناء الاعتصام.

فعلى سبيل المثال، أصدرت محكمة النقض في أكتوبر/تشرين الأول 2016، أول حكم بات بالسجن المؤبد على بديع في القضية المعروفة إعلامياً بـ"قطع طريق قليوب" ومعه البلتاجي وباسم عودة وصفوت حجازي وآخرون، وهي قضية وقعت أحداثها في منطقة قليوب شمال القاهرة، والتي لم يكن أي من قيادات الجماعة متواجدين فيها. لكن النيابة حركت الاتهام ضدهم وضد أبرز قيادات "الإخوان" في محافظة القليوبية، ومنهم النائبان البرلمانيان السابقان أحمد دياب ومحسن راضي، استناداً إلى التحريات المكتبية للأمن الوطني فقط، وإلى شهادات شهود من ضباط وأمناء الشرطة.


وسيراً على هذا النهج، أصدرت دوائر الجنايات المختلفة أحكاماً ضد قيادات الجماعة مكتفية بالتحريات الشرطية، ومرددة ما جاء فيها بالحيثيات، بل ورافضة في بعض الأحيان مجرد مناقشة الدفع ببطلانها باعتبارها داخلة في صميم تكوين عقيدة المحكمة. ومنها على سبيل المثال قضية "أحداث البحر الأعظم" في الجيزة، والتي صدرت فيها أحكام بالمؤبد والمشدد ضد بديع والعريان والبلتاجي وباسم عودة والحسيني عنتر وصفوت حجازي، وهم جميعاً حصلوا على البراءة في الحكم الأخير، علماً بأن الأحداث في القضيتين وقعت في نفس التوقيت في مكانين مختلفين.

خفاجي الأمس واليوم
واللافت أن المستشار معتز خفاجي، صاحب حكم البراءة الأخير، كان على رأس القضاة الذين كانوا يعتنقون هذا النهج. ففي فبراير/شباط 2015، أصدر خفاجي حكماً بمعاقبة 4 من أعضاء "الإخوان" بالإعدام شنقاً، وبالسجن المؤبد على قيادات من الصف الأول في الجماعة، في القضية المعروفة إعلامياً بـ"أحداث مكتب الإرشاد" التي عوقب فيها أعضاء الجماعة على دفاعهم عن أنفسهم في مواجهة البلطجية. وفي حيثيات الحكم، رفض خفاجي الدفع ببطلان التحريات، معتبراً ذلك جدلاً موضوعياً لا تجب إثارته أمام المحكمة، ومشيراً إلى اقتناع المحكمة بالتحريات كقرينة على ارتكاب المتهمين لجرائم القتل والشروع في القتل والتحريض عليه.

وفي مايو/أيار 2017، أصدر خفاجي حكماً بالسجن المؤبد لبديع واثنين آخرين، والسجن المشدد 5 سنوات لخمسة عشر متهماً في القضية المعروفة إعلامياً بـ"غرفة عمليات رابعة"، وهو الحكم الذي أيّدته محكمة النقض بحكم بات غير قابل للطعن في إبريل/نيسان 2018. وفي ذلك الحكم اكتفى خفاجي بالتحريات كدليل على إدانة بعض المتهمين من دون الآخرين، على الرغم من أن ضباط الشرطة المسؤولين عن كتابة التحريات أكدوا أمام المحكمة أنهم لا يذكرون مصادر معلوماتهم ولا يستطيعون الجزم بتفاصيلها.

وعلى هذا النهج أيضاً، أصدر خفاجي أحكامه في قضايا أخرى شهيرة، مثل مقتل اللواء نبيل فراج في كرداسة، والتي حكم فيها بإعدام 12 شخصاً بناءً على تحريات الشرطة فقط، وإعدام 5 في خلية أكتوبر الإرهابية، واقتحام قسم شرطة أطفيح، وخلية الصواريخ في مدينة نصر، ومجموعة "أجناد مصر" الإرهابية التي لم يكن أحد المقدمين للمحاكمة فيها على علم بالجرائم المثبتة في قرار الاتهام الخاص بها، وغيرها من القضايا.
ولا يجد معتز خفاجي غضاضة في إعلان تأييده للنظام الحاكم في مصر، ففي حوار صحافي أدلى به لصحيفة "المصري اليوم" عقب نجاته من محاولة اغتيال في مايو/أيار 2015، علّق على انقلاب السيسي في 2013 قائلاً: "السيسي مصري أصيل بيحب بلده ويحب الشعب لأنه منه وعارف المخطط وقارئ كل اللي بيحصل، وبالتالي كان خوفه على مصر أكتر من خوفه على نفسه".

ويترأس جميع الهيئات القضائية المصرية حالياً مستشارون معيّنون بقرار جمهوري من السيسي، بشكل مخالف لقاعدة الأقدمية المعمول بها منذ نشأة القضاء المصري، استناداً للقانون الذي أصدره في إبريل/نيسان 2017 والمطعون عليه أمام المحكمة الدستورية حالياً، والذي استبعد بسببه المستشاران يحيى دكروري وأنس عمارة من رئاسة مجلس الدولة ومحكمة النقض على الترتيب، بسبب تقارير أمنية اعتبرتهما من معارضي النظام، بسبب إصدار الأول حكماً بمصرية جزيرتي تيران وصنافير، وتأييد الثاني لتيار الاستقلال القضائي في العقد الماضي.
وبعد أحداث منتصف 2013 والإطاحة بحكم مرسي و"الإخوان"، تم إقصاء العشرات من القضاة وأعضاء النيابة الإدارية وقضايا الدولة بتهمة الانتماء لحركة "قضاة من أجل مصر" والعمل لمصلحة جماعة "الإخوان" والاشتراك في فعاليات سياسية لمساندة مرسي، كما تم إدراج بعضهم على قائمة الإرهاب بعد اتهامهم في قضايا مختلفة، بينما تم الاعتماد على عدد محدود من القضاة، من بينهم معتز حفاجي وشيرين فهمي وحسن فريد وناجي شحاته وحسين قنديل، كرؤساء لدوائر قضايا الإرهاب في محاكم الجنايات.

المساهمون