المفقودون تهديد متعاظم لباكستان: حراك احتجاجي متصاعد بلا حلول

09 مايو 2018
تسعى السلطات لإقناع المحتجين بوقف تظاهراتهم (عارف علي/فرانس برس)
+ الخط -
تتفاقم قضية المفقودين والمخفيين قسراً في باكستان، التي تسبّبت بمشاكل كبيرة في البلاد، فيما تصر حركة "حماية حقوق البشتون" على كشف مصير كل هؤلاء، قائلة إنهم في قبضة الجيش والاستخبارات، في وقت يسعى فيه الجيش من خلال وساطة قبلية وضغوط بشتى الطرق لإقناع الحركة بالتخلي عن تنظيم اعتصامات واحتجاجات في أنحاء متفرقة من باكستان. وأطلق الاجتماع القبلي المعروف محلياً بـ"الجرغا"، مساعيه في هذا الخصوص منذ أكثر من شهر، غير أنها واجهت عثرات كبيرة، أكبرها كانت قضية المفقودين والمخفيين، التي يبدو أن الجيش الباكستاني ليس جاهزاً للتجاوب مع المطالب حولها.

وتعود قضية المفقودين والمخفيين قسراً في باكستان إلى فترة طويلة، وهي بدأت في إقليم بلوشستان عام 2004 ثم امتدت إلى أقاليم أخرى لا سيما إقليم خيبربختونخوا في الشمال الغربي ومنطقة القبائل التي تشهد هذه الأيام حراكاً شبابياً ضد الجيش والاستخبارات، المسمى بـ"حركة حماية حقوق البشتون"، ومن القضايا الأساسية لديها المفقودون وحالات الإخفاء القسري.
وتسبّبت هذه القضية بخلق مشاكل جمّة في البلاد، أبرزها وقوف بعض أبناء عرقية البلوش ضد السلطات وحملهم السلاح، حتى وصل الأمر إلى رفض العلم والنشيد الوطني، إضافة إلى تقوية الشعارات المؤيدة للانفصال، والتي تدعمها قوى محلية ودولية. كما نجم عنها أخيراً وقوف قبائل البشتون ضد الجيش والاستخبارات، لتصبح ولأول مرة معارضة الجيش والاستخبارات حديث الشارع. وازداد الأمر سوءاً بسبب تردد السلطات وتضارب مواقفها حيال القضية، فهي تارة تشكل لجاناً قضائية للنظر فيها، في محاولة لتهدئة الأوضاع وشراء بعض الوقت، وتارة تنكر الاتهامات الموجّهة لها وتقول إن ليس لديها أي معتقل، سوى بضعة أشخاص ينتمون لجماعات مسلحة. وفي الأثناء يتم العثور على جثث مجهولة تعود لمفقودين، وصل عددها إلى ثمانية آلاف بحسب بعض الإحصائيات.

وفي هذا الصدد، قالت لجنة حقوق الإنسان في باكستان، في بيانها السنوي، إن "حالات الإخفاء القسري أو ما يسمى محلياً بقضية المفقودين ما تزال متواصلة ويزداد العدد يوماً بعد آخر، والحكومة لا تحرك ساكناً لحلها ولم تفِ بما قطعته من وعود". ولفتت المنظمة إلى أن أكثر حالات الإخفاء تتعلق بإقليم خيبربتختونخوا ومنطقة القبائل، وأن ما تقوله الحكومة بصدد عدد تلك الحالات غير صحيح. وذكرت اللجنة أن "الصحافيين والمحامين والنشطاء وشرائح مختلفة تعرضت للعنف والإخفاء القسري في البلاد"، مشيرة إلى أنه "يتم اتهام جميع من رفعوا صوتهم لأجل القضية، بأنهم معادون للجيش، ومعادون لباكستان وللإسلام".

ولأن الجهود المبذولة في هذا الصدد مبعثرة وغير منسقة، لا توجد إحصائية دقيقة حول عدد حالات الإخفاء القسري أو المفقودين. لكن حركة "حماية حقوق البشتون"، التي ظهرت قبل ثلاثة أشهر تقريباً وأصبح لها تأثير داخل القبائل وفي شمال غرب باكستان، تقول إن عدد المفقودين يصل إلى 32 ألف شخص، وأطلقت حملة للحصول على إحصائية دقيقة. وأشار زعيم الحركة منظور بشتين، في خطاب له خلال اجتماع في وادي سوات قبل أيام، إلى أن "الحركة تعمل لجمع أرقام عن حالات الإخفاء القسري ومعلومات كافية بشأنهم، غير أن العدد يزداد يوماً بعد آخر"، لافتاً إلى أنه "خلال فترة وجيزة وفي أثناء اجتماع بشاور في 8 إبريل/نيسان الماضي، سجُلت أكثر من ألفي حالة". كما أكد أن الكثير من الحالات لم تُسجل لأن الجيش والاستخبارات يمارسان ضغطاً على ذوي المفقودين كي لا يتحركوا، قائلاً إنه يعرف الكثير من الأسر التي لم تتحرك لإطلاق سراح ذويها خوفاً من تعرضها لضغوط أخرى من قبل الجيش وأجهزة الاستخبارات، مشدداً على أن "زمن الصمت قد ولى وآن الأوان لسؤال الأجهزة الأمنية حول مصير أبناء القبائل".


سنوات من الإخفاء
بدأت ظاهرة الإخفاء القسري عام 2004 في إقليم بلوشستان إبان حكم برويز مشرف. شهد هذا الإقليم إخفاء الآلاف من أبنائه، منهم الأطباء والصحافيون وأساتذة الجامعات وعامة المواطنين، وجلّهم من العرقية البلوشية. وبعد تزايد أحداث الاختفاء في الإقليم، أسس ذوو المفقودين من عرقية البلوش حزباً خاصاً لرفع صوتهم، يعمل منذ ذلك الحين ولكن بلا جدوى. للحزب خيمة اعتصام إلى جانب مقر المجلس الإقليمي منذ سبعة أعوام ولكنه لم يتمكن من تحقيق أي نتائج.

وفي هذا الخصوص، قال نائب زعيم الحزب، بابا قدير بلوش، في البيان السنوي للحزب، إن السلطات الباكستانية غير جادة في التعامل مع القضية، مضيفاً "أعطينا قائمة المفقودين إلى المحكمة العليا والحكومة والإدارات المعنية بحقوق الإنسان، والقائمة تطول مع مرور الأيام، ولكن كل ذلك بلا جدوى". ولفت إلى أن "الحكومة لا تأخذ القضية على محمل الجد وتتعامل معها بكل قسوة، إذ نعثر على جثث متعفنة للمختفين بشكل شبه يومي، ووصل عددها تقريباً إلى ثمانية آلاف جثة، بينما لا نعرف مصير الآلاف المختفين، وهو أمر مؤسف للغاية علاوة على أنه يشكل خطراً على مستقبل هذه البلاد".

في العام 2006، ومع تمدد ظاهرة الإخفاء القسري إلى أقاليم أخرى، انطلقت حركة لأجل إطلاق سراح ضحايا حالات الإخفاء القسري على مستوى البلاد، بعد أن قام أهالي بعض المفقودين بتنظيم أنفسهم والتعاون معاً لتحقيق العدالة. وأسست آمنة مسعود جنجوعة، التي فقدت زوجها، لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان للتحرك لأجل المخفيين قسراً. وبعد اجتماعات وتحركات شعبية، قدّمت اللجنة التماساً إلى المحكمة العليا للنظر في القضية، ومن ثم بدأت المحكمة العليا تطلب إيضاحات من الحكومة بهذا الشأن. بذلك انتعشت آمال ذوي المفقودين إلى حد ما، غير أنه مع مرور الأيام، تحوّل عمل المحكمة إلى حبر على ورق بلا جدوى. وعام 2007 عندما قام برويز مشرف بتعطيل عمل الدستور وفرض حالة الطوارئ، ثم عزل معظم قضاة المحكمة، تحطمت تلك الآمال وأصبحت القضية منسية تماماً.

عند عزل مشرف ووصول نواز شريف إلى سدة الحكم في العام 2013، شُكّلت لجنة قضائية خاصة للنظر في القضية، ولكنها هي الأخرى لم تحقق أي تقدّم. وفي هذا السياق، قال رئيس لجنة متابعة أحوال المفقودين في إقليم بلوشستان، نصر الله بلوش، في بيان له الشهر الماضي، إن "كل الجهود المبذولة بهذا الشأن لا جدوى منها، فمن سياسات الحكومة استمرار الوضع كما هو، ونحن نعثر على جثث مجهولة"، محذراً من أن "الأمر أخطر مما تتصوره السلطات الباكستانية".

حراك متصاعد

على الرغم من كل تلك الجهود، لم تتوقف سلسلة الإخفاء القسري في باكستان، بل ازدادت أعداد المخفيين، لا سيما بعد ظهور حركة "حماية حقوق البشتون"، إذ اعتُقل العشرات من أنصار الحركة وزج بهم في أماكن مجهولة ولم يُعرف مصيرهم حتى الآن. وقال زعيم الحركة منظور بشتين في اجتماع سوات أخيراً، إن "سلسلة الاعتقالات متواصلة، ونخشى أن تكون المفاوضات مع الجيش فرصة لانطلاق حملة جديدة من الاعتقالات وحالات الإخفاء القسري في صفوف شبابنا"، منوهاً إلى أن "أي نوع من التكاسل في الحركة سيؤدي إلى فقدان عدد كبير من الشباب، والأجهزة تنتظر تلك الفرصة، لذا نحن لن نلين ولن نتنازل عن موقفنا، ونسأل الحكومة ماذا فعلت بهؤلاء المعتقلين؟".

أما أهالي المفقودين والمخفيين قسراً، فبعد أن فقدوا آمالهم في الإجراءات الرسمية، توجّهوا إلى تنظيم احتجاجات. هؤلاء يشكّلون جزءاً كبيراً من الاحتجاجات التي تنظّمها حركة البشتون، ويحضر الاجتماعات أطفال ونساء وشيوخ وشباب من ذوي المفقودين، وهم يأملون أن يرغموا السلطات الباكستانية على تقديم المخفيين إلى المحاكم أو إطلاق سراحهم نتيجة الاحتجاجات. وأتت جهودهم الحالية ببعض النتائج، إذ تم الإفراج عن حوالي 400 شخص خلال الشهرين الماضيين، ولكن كل المفرج عنهم كانوا في وضع صحي سيئ، فبعضهم فقدوا الوعي تماماً وآخرون يعانون من أمراض معدية وخطيرة.