أزمات تونس تفتح شهية النظام الرئاسي والانتخابات المبكرة

30 ابريل 2017
قوانين عرضت على البرلمان التونسي لكنها سقطت(فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
كشفت أزمة الاحتجاجات التونسية، الأسبوع الماضي، عن أسئلة عميقة حول الوضع السياسي في تونس، حزبياً ومؤسساتياً. ولم يتمكن رئيس الحكومة التونسية (الثامنة)، يوسف الشاهد، من حسمها في البرلمان أو في نقاشه مع الأحزاب أو حتى من خلال التحدث إلى التونسيين عبر التلفزيون. وأمام غياب السند الحزبي الشعبي في المناطق الملتهبة، قفز الشاهد من فوق كل النظام السياسي التونسي بمؤسساته، وارتمى مباشرة إلى حيث القاعدة الأولى، الناخب التونسي في المدن والقرى. وذهب يتحدث إلى الناس مباشرة، ما طرح أسئلة كبرى حول النظام السياسي في تونس: من يدير الشارع في تونس؟ وما هي الأحزاب الفاعلة على الميدان؟ من يؤثر في القرار الشعبي؟ ومن يحرك الاحتجاجات؟ من يتحكم في القرار السياسي؟ ومن ينتجه؟ من يوالي ومن يعارض فعلياً؟ ما هي حقيقة التوازنات السياسية في تونس؟ هل هي كما تبدو في البرلمان أم هي موجودة في الشارع؟ ما هي تناقضات النظام السياسي التونسي؟ وهل تخفي طلبات تغييره نوايا استبدادية أم أنها بالفعل دعوة إلى فكّ عقده؟

مع كل موجة احتجاجات في تونس، قبل انتخابات 2014 وبعدها، تتجه أصابع الاتهام إلى "الجبهة الشعبية" اليسارية وحراك "تونس الإرادة" الذي يتزعمه الرئيس التونسي السابق، المنصف المرزوقي، وبعض الأحزاب والشخصيات الأخرى التي يراوح تمثيلها في المناطق المحتجة، مع أن تمثيلها في البرلمان قليل أو معدوم، ما يعني أنها لا تتحكم في القرار السياسي النظامي. لكن خصومهما يشيرون، بهذا الاتهام، إلى أن الجبهة الشعبية وحراك "تونس الإرادة" يتحكمان في القرار الشعبي في الشارع، أو على الأقل يؤثران فيه بشكل كبير.

وإذا تم تسليط الضوء على ميزان القوى السياسي، يتبين أنه لا يقاس في تونس بحسب الأغلبية والأقلية في البرلمان، مع أن النظام السياسي برلماني في الظاهر، ولكن أغلب القوانين التي عرضها الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، على البرلمان سقطت أو تأجلت وتعثرت لأشهر، على الرغم من أن الرئيس منتخب مباشرة من الشعب، ويملك بحكم التحالف أغلبية مريحة جداً في البرلمان، ومتجانس مع الحكومة، رأس السلطة التنفيذية الثاني. لكن يكفي أن يخرج حزب صغير لا تمثيل مهمّاً له في البرلمان، بحسب الأرقام، أو شخصية معارضة قوية، مثل النائبة سامية عبّو، مثلاً، لتخلط كل الأوراق وتربك الأغلبية بكل قواها ومؤسساتها ومشروعيتها الانتخابية.


ويسترعي الانتباه ما حدث في خلافات سابقة حول بعض الملفات الكبرى، عندما قررت الأغلبية مثلاً أن تتقدم بمبادرة تشريعية لفضّ مشكلة المجلس الأعلى للقضاء، أو مشروع المصالحة الاقتصادية، وكيف رد المعارضون، من قضاة وسياسيين، بأن الشارع هو الفيصل، ما يعني أن السجال السياسي لا يحكم بالضرورة داخل الأطر الدستورية أو القانونية، وإنما في الشارع، بما يعني اختلال توازن الفعل السياسي، وعدم استقراره إلى حد الآن، وهو ما يمكن اعتباره أمراً معقولاً بالنظر إلى حداثة المشهد السياسي الجديد في تونس.

وبالمناسبة، يعود الحديث نفسه هذه الأيام بمناسبة إعادة طرح قانون المصالحة بعد إدخال تعديلات عليه، ويبدو أنه سيكون أسبوعاً صعباً جداً، شعبياً وسياسياً وربما أمنياً أيضاً، بسبب إصرار المعسكرين على المواجهة. هذه المفارقة بين أغلبية في البرلمان لا تؤثر فعلاً في الشارع، وبين أقلية نشطة ومؤثرة على الميدان، تحيل بدورها إلى مفارقة أخرى عندما يتعلق الأمر باستطلاعات الرأي، إذ تُجمع كل شركات استطلاع الرأي على الترتيب نفسه بشأن شعبية الأحزاب، لا سيما حزب "نداء تونس" ثم حركة "النهضة" وبعدهما "الجبهة الشعبية" وبقية الأحزاب، ما يعني أن الأغلبية البرلمانية تتمتع نظرياً بعمق شعبي، لكنها تتراجع بشكل لافت وتغيب تماماً في الاختبارات الحقيقية. لذلك يصبح من المشروع التساؤل بأي أدوات يمكن أن يُدار الحكم في تونس؟ وما هي الشرعية الحقيقية على أرض الواقع؟ وما هي أُسس الديمقراطية التونسية؟ وهل وصلت الديمقراطية التشاركية التي تفرضها عملية الانتقال إلى طريق مسدود؟ الأهم هل يشكو النظام السياسي التونسي الحالي الذي أفرزه الدستور التونسي من علّات، وهل ينبغي تغييره مثلما يروّج كثيرون منذ أشهر؟

وتستوجب محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة عودة إلى مراحل الأحداث بعد الثورة، عندما طالبت كل الأحزاب والشخصيات المعارضة لنظام الحكم السابق، بانتخاب مجلس تأسيسي يكتب دستوراً جديداً ولا يكتفي بتعديل دستور 1959. وكان "النهضاويون" واليساريون من أشد الداعين إلى ذلك، ثم تولى المجلس التأسيسي صياغة الدستور، في شبه إجماع على النظام البرلماني، تحت وطأة الخوف من نظام رئاسي يعيد المنظومة نفسها والأدوات ذاتها. لكن انتخابات عام 2014 لم تمكّن المنظومة اليسارية، بما هي أحزاب وتشكيلات وشخصيات، من أغلبية في البرلمان الجديد أيضاً. ونشأ تحالف جديد بين الدستوريين والتجمعيين والإسلاميين، بما أنتج نظاماً سياسياً خليطاً بين البرلماني والرئاسي، لم يفصل حقيقة بين السلطات ولم يمكّن البرلمان من سلطة فعلية على الأرض. وقاد هذا النظام خلال وقت قليل، إلى تشكيل ثلاث حكومات متعاقبة وربما يقود إلى رابعة قبل 2019 إذا لم يحسم الشاهد أمره بشأن التحديات المطروحة.

هذا القلق في النظام السياسي، دعا الرئيس السبسي إلى التأكيد على أنّ "النظام السياسي القائم غير مثالي، لأن أغلبية الشعب التونسي مع النظام الرئاسي"، قائلاً إنه لا يرى "مانعاً من تعديل الدستور بهدف اعتماد شكل جديد لنظام الحكم في البلاد"، وفق تعبيره. في هذا الصدد، يعتبر أستاذ القانون الدستوري، قيس سعيد، أن إجراء التعديلات الدستورية محدد في الفصل الثامن من الدستور، ويشترط أن تكون المبادرة صادرة عن رئيس الجمهورية أو عن ثلث مجلس نواب الشعب. ولكن هذا الأمر لا يتم قبل إرساء المحكمة الدستورية وقبلها المجلس الأعلى للقضاء، وهو ما يتم بالفعل في الفترة الأخيرة، فهل يعني أن تونس مقبلة فعلياً على تعديل دستوري يشمل نظام الحكم؟

وأمام هذا "القلق البرلماني"، تطالب بعض القوى اليسارية بانتخابات مبكرة، ولكنها تعارض تحوير (تعديل) الدستور بما يدعم الصلاحيات الرئاسية. وإذا كان مفهوماً أن تذهب هذه التيارات اليسارية إلى هذا الخيار، بحكم أنها أقلية، فإنه من غير المنطقي، في الظاهر، أن تدعو قوى أغلبية لذلك في البرلمان، مثل "نداء تونس" و"النهضة"، إلى تعديل دستوري، خصوصاً حركة "النهضة" التي استماتت في الدفاع عن النظام البرلماني. غير أن مراجعتها لهذا الواقع قد تكون وراء هذا التفكير. وفي هذا السياق، يرى مستشار زعيم حركة "النهضة" راشد الغنوشي للشؤون السياسية، لطفي زيتون، أنه توجد "فكرة خاطئة عن النظام السياسي في بلادنا، إنه نظام برلماني"، وفق تعبيره.

ويقول زيتون، في مقال نشره بالصحافة التونسية، "صحيح أنّ الأمر طرح مباشرة بعد إلغاء دستور 1959 ومفاده بأنّ نظام الرئاسة المطلقة الذي حكم البلاد لستة عقود كان سبباً رئيسياً لاستشراء الاستبداد والفساد الذي أنتج ثورة كادت تطيح ببنيان الدولة لولا لطف الله ونضج الشعب، ولكن حركة التدافع بين النخب السياسية، خاصة بعدما انكشف التفاوت الفادح في حجم البنى الحزبية، أدّت إلى إنتاج نظام هجين لا هو بالرئاسي ولا بالبرلماني، على حد وصفه.

ويرى زيتون أن تونس تعيش منذ خمس سنوات برأسين للسلطة التنفيذية وبرلمان لا تتوفر له أدنى شروط العمل لترجمة الدستور إلى قوانين، وهو ما أثر على مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية، وفق قوله. ويساهم ذلك في الحد من فاعلية الدستور، فضلاً عن أن ركنين أساسيين في الدستور لم يريا النور بعد سنة كاملة، وهما المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية، إضافةً إلى الشغور الذي تعاني منه كل الهيئات الدستورية تقريباً وغياب بعضها تماماً، بحسب ما لفت زيتون. ويقول إن "البعض يرفضون الخوض في هذه المسألة متحججين بأن الدستور لم تمض على كتابته مدة طويلة، فكيف ندعو إلى مراجعته، ولكن الحقيقة غير ذلك، فهذا النظام السياسي هو الذي اعتمد خلال السنوات الخمس الماضية وأنتج كل هذه الأزمات". وعلى الرغم من أن هذا الرأي لزيتون لا يمثل موقف حركة "النهضة" ككل، إذ يعارضه في ذلك كثيرون، إلا أنه يعكس بداية تفكير في الأمر. ولكن هل يمكن أن تطرح هذه الأسئلة الجوهرية بمعزل عن الواقع السياسي التونسي المتشظي؟ السؤال مشروع لأن الدستور الجديد تم إقراره بغالبية ساحقة في المجلس التأسيسي، وهي اليوم مفقودة تماماً.

المساهمون