"النصرة" وصفقة تبادل العسكريين اللبنانيين: مكاسب ومآرب

03 ديسمبر 2015
خلال استقبال الأسرى المحررين في السراي الحكومي (حسين بيضون)
+ الخط -
لا يُجازف المتابع لتفاصيل صفقة التبادل ما بين الدولة اللبنانيّة وجبهة النصرة، عندما يقول إن تاريخ حصول هذه الصفقة، أي في الأوّل من ديسمبر/كانون الأول من العام 2015، هو تاريخ مفصلي في تاريخ العلاقة بين لبنان والمعارضة السورية. فجبهة النصرة، وإن كانت حركة سلفيّة جهادية مرتبطة بتنظيم القاعدة، فهي مكون أساسي من مكونات المعارضة السورية. وإسلاميتها، لا تلغي أنها تملك رصيداً شعبياً. وهذا الرصيد لا يُؤمن تقييماً سياسياً أو أخلاقياً للجبهة، بل هو مجرد واقع لا أكثر.

لكن، لماذا يجب اعتبار الأول من ديسمبر/كانون الأول تاريخاً مفصلياً؟ القراءة الهادئة لبنود الصفقة، التي أعلنها رئيس مؤسسة "لايف"، المحامي نبيل الحلبي، من مكان التبادل، تُشير إلى مجموعة من النقاط التي لا بد من الوقوف عندها لفهم نتائج هذه الصفقة:


1 ــ كرّست جبهة النصرة نفسها، عبر الصفقة، "الأب الروحي" لللاجئين السوريين في لبنان عبر تحسين ظروف إقامتهم. يصل جسم اللاجئين في الحد الأدنى إلى نحو مليون و75 ألف لاجئ، بحسب الرقم الرسمي لمفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة (انخفض من مليون و185 ألفاً في نهاية شهر يونيو/حزيران الماضي)، وحده الأقصى نحو مليونين بحسب تصريحات وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل.  بقي هذا الجسم من دون قيادة، إذ فشلت أطياف المعارضة المختلفة، من المجلس الوطني إلى الائتلاف المعارض، في أن تُمثّل اللاجئين. اليوم، طرحت جبهة النصرة نفسها ممثلاً للاجئين السوريين، وبدأت بتلمّس خطواتها في هذا المجال. وقد افتتحت هذا الأمر بالاتفاق على تخفيف المضايقة الأمنية التي يتعرّض لها اللاجئون، وخصوصاً في ما يخص أوراق الإقامة. وقد حازت النصرة على اعتراف مبدئي من مختلف أطراف الصفقة بهذا الأمر.


2 ــ حصلت "النصرة" على اعتراف رسمي لبناني، بأن جرود عرسال تُعتبر منطقة آمنة لها. فالاتفاق على وجود ممر آمن دائم بين البلدة وجرودها، من أجل إيصال المساعدات إلى المخيمات الموجودة في الجرود، يعني فتح "معبر" شبه رسمي بين الجهتين. وبطبيعة الحال، سيواجه هذا "المعبر" بعض المشاكل، لكنه يبقى "معبراً". وجاء قصف الجيش اللبناني العنيف، أمس الأربعاء، على الجرود، ليُخفف من وقع هذا الجانب من الاتفاق. وصل الأمر ببعض المراقبين إلى المبالغة قليلاً وتشبيه ما جرى بـ"فتح لاند" في منطقة العرقوب في بداية سبعينيات القرن الماضي.

3 ــ قدّمت جبهة النصرة المزيد من أوراق الاعتماد للطائفة السنية في لبنان. فمطالبة "النصرة" بتجهيز مستشفى في بلدة عرسال، المحرومة من الإنماء الرسمي اللبناني، وحصولها على المستشفى كبند من الاتفاق، يُقدّمها كجهة تسعى لتأمين مصالح سنة لبنان إلى جانب رعايتها المصالح السورية. ربما هذا الأمر، هو الذي دفع "قوى الاعتدال السني" إلى ردة فعل سلبية ضدّ الاتفاق بينما كان موقفها الأولي مؤيداً، كموقف جمهورها، الذي رأى في هذه الصفقة "انتصاراً في زمن التنازلات".
وكان أبرز معبّر عن هذا الانزعاج، قول وزير الداخليّة اللبناني، نهاد المشنوق، في حديث تلفزيوني بعد ساعات على الصفقة بأن بلدة عرسال بلدة محتلة. كلام المشنوق هذا، يُعبّر عن الانزعاج من إعادة تفعيل الدور القطري كوسيط أساسي في لبنان، ومن أن الصفقة خاطبت قلوب جمهور تيار المستقبل، الممتعض من تنازلات زعيمه سعد الحريري المتتالية، خصوصاً في مقابل حزب الله وحلفاء النظام السوري.


4 ــ تعاملت جبهة النصرة بذكاء مع الموقوفين المفرج عنهم. فهي لم تُحاول إقناعهم بالذهاب إلى الجرود، بل اكتفت قيادتها بطلب الاستماع إليهم يُعلنون رغبتهم في العودة إلى الداخل اللبناني لتوافق على الأمر. وتُسجّل في هذه النقطة أمور عدة مهمة، منها إظهار "النصرة" نفسها كجهة مهتمة بـ"أمور المسلمين" من دون أن تطلب شيئاً لنفسها. وهنا فشل الجانب اللبناني في إظهار مدى ارتباط أربعة من المفرج عنهم بقيادات "النصرة". لكن الأهم، هو بقاء المفرج عنهم داخل الأراضي اللبناني، من دون ملاحقة، ولو لفترة، وخصوصاً أن بينهم من هو متورط بدماء لبنانيين، كجمانة حميّد المسؤولة عن نقل سيارات مفخخة إلى الداخل اللبناني بحسب اعتراف الموقوف عمر الأطرش، وحسين الحجيري المتهم بقتل عنصر أمني إضافة إلى دوره في ملف خطف الأستونيين السبعة.
واستطاعت جبهة النصرة في هذا السياق، ترجمة الشعار الذي رفعه الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، يوماً، وهو "نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون". فجبهة النصرة أصرت منذ الأسابيع الأولى لاعتقال جمانة حميّد على إطلاق سراحها، على الرغم من توقيفها من السلطات اللبنانية بالجرم المشهود، وهو ما حصل.


اقرأ أيضاً: بنود صفقة التبادل بين لبنان و"النصرة"

5 ــ أعلن العسكريون المفرج عنهم أن معاملة جبهة النصرة لهم كانت جيدة، على الرغم من أن معظم هذه التصريحات صدرت بينما كانوا ينتظرون في سيارات تابعة للجبهة قبيل تسليمهم للصليب الأحمر اللبناني. هذه التصريحات تُساهم في إظهار صورة إنسانية تسعى "النصرة" للترويج لها، مقابل صورة النظام السوري الذي يُعذب المعتقلين ويقتلهم. وهذا لا يعني أن "النصرة" لا تمارس التعذيب في سجونها، بل إن هذا التعذيب موثق. لكن صورة العسكريين المفرج عنهم بصحة جيدة، طغت على وسائل الإعلام العربية أول من أمس.

6 ــ قوّضت جبهة النصرة الصورة الإعلامية التي سعى حزب الله إلى تعميمها عن معارك سورية عموماً ومعارك القلمون وجرود عرسال خصوصاً. فرغم الحصار والظروف الصعبة، والهجوم الذي نفذه حزب الله في يونيو/حزيران الماضي مدعوماً بطائرات النظام، نفّذ مقاتلو النصرة "عراضة" عسكرية من الجرود وصولاً الى بعض منازل المدنيين عند أطراف بلدة عرسال.
وتوّجت جبهة النصرة هذه المكتسبات، بضمان وجود لجنة تنسيق، وإن غير مباشرة، بينها وبين الدولة اللبنانية وحزب الله ومؤسسة "لايف" برعاية قطرية. وقد بدأت هذه اللجنة عملها يوم أمس، بحسب ما أكّد الحلبي لـ"العربي الجديد"، إذ تواصل مع الموفد القطري بعدما قام الجيش بقصف الجرود الذي تواصل بدوره مع الجانب اللبناني لحلّ المشكلة.

ويؤكّد الحلبي، أن "النصرة" أرسلت للحكومة اللبنانية عبره رسالة مفادها أن لا أطماع لجبهة النصرة في لبنان، وأنها ستتجه صوب الجنوب السوري. ويُشير الحلبي إلى أن "النصرة" تعمل على تظهير صورة مختلفة لها منذ إطلاق سراح 40 جندياً من القوات الدوليّة في الجنوب السوري من دون مقابل، ومحاسبة القيادي التونسي المسؤول عن مجزرة قلب لوز في إدلب بحق السوريين من أبناء طائفة الموحدين الدروز.

وهنا يقول الحلبي، إن "النصرة" تهتم بإزالة اسمها عن لوائح المنظمات الإرهابية، وهناك سعي ونقاش مستمر حول ضرورة الفصل بين جبهة النصرة كفصيل سوري معارض للنظام، وجبهة النصرة المبايعة لتنظيم القاعدة.

حصل الاتفاق، وبات للدولة اللبنانيّة "حدود ومعبر" مع جبهة النصرة، مثلما يوجد في داخلها مليشيات أقوى من سلطة الدولة. تكريس هذا الأمر تدريجياً، يُساهم برسم سياق تراجع الضعف المستمر للدولة وأجهزتها ومؤسساتها منذ بداية الثورة السورية. ضُعف يُراكم على فشل في صياغة مشروع وطني، ويضرب ما تبقى من شعار "دولة المؤسسات".

اقرأ أيضاً: "الجزيرة" في جرود عرسال:وبات لجبهة النصرة وجه واسم نعرفهما

المساهمون