في وقت تؤكد السلطات الإيرانية مراراً أن البلاد تتعرض لأشرس حرب اقتصادية أميركية، وتقول إنها ستحبطها، وأن هذا الأمر يتطلب مواجهتها اقتصادياً، يتصدّر، منذ فترة قصيرة، كبار القادة العسكريين الإيرانيين من الجيش والحرس الثوري، وأمين مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، المشهد الإعلامي في إيران بشكل لافت للنظر ومثير للفضول. ولا يكاد يمر يوم إلا ويظهر قائد عسكري أو أكثر في فعالية أو ندوة في طهران أو مدن إيرانية أخرى، ليطلق تصريحات ومواقف لافتة تتسم بطابع هجومي وتهديدي ضد الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في الشرق الأوسط.
وتشترك جميع التصريحات في نقطتين أساسيتين؛ الأولى هي التركيز على إبراز قدرات إيران العسكرية ونفوذها وأوراقها الإقليمية، والثانية هي مهاجمة أميركا وإسرائيل والسعودية والإمارات، والاستهتار بقدراتها في شن حرب على طهران. وذهب بعض هؤلاء القادة، في تصريحاتهم، إلى ما هو أبعد من ذلك، بالحديث عن أن "سلطة أميركا نحو الزوال"، وأنها "لم تعد القوة العظمى في العالم"، كما جاء على لسان المستشار العسكري الأعلى للمرشد الإيراني يحيى صفوي أخيراً.
ولم تخل التصريحات من الإشارة، ولو بشكل عابر إلى تحديات وتهديدات تواجهها طهران، إذ يؤكد رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية محمد باقري أن بلاده تواجه "تهديدات غير متماثلة من قبل القوى العظمى، وأخرى متماثلة من أعوان هذه القوى، وحروباً بالوكالة عبر مجموعات إرهابية". وبلغت نبرة التهديدات العسكرية الإيرانية ذروتها، بعد مقتل 27 عسكرياً وجرح 13 آخرين خلال فبراير/شباط الماضي، في هجوم انتحاري نفذته جماعة "جيش العدل". واتهمت إيران السعودية والإمارات بتقديم دعم لوجستي واستخباراتي ومالي للجماعة لتنفيذ الهجوم، متوعدة بالرد "بطريقة مختلفة". واللافت أن التصريحات العسكرية شُفعت بإجراءين عسكريين بارزين، الأول يتمثل في أربع مناورات عسكرية ضخمة، جوية وبحرية وبرية، أجرتها القوات المسلحة الإيرانية في أقل من ثلاثة أشهر، تحول بعضها إلى مناورات هجومية، بحسب الحرس الثوري. والإجراء الثاني هو الكشف عن أسلحة ومعدات عسكرية جديدة، سواء خلال المناورات، أو معارض عسكرية أو مراسيم خاصة، منها مُدن صاروخية تحت الأرض، وغواصات وصواريخ جديدة، وتدشين أسطول كبير من الطائرات المسيرة الهجومية خلال مناورة لهذه الطائرات في مياه الخليج الأسبوع الماضي.
وبينما سبق وأكد المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، أن "حرباً لن تحدث"، وصرح القادة العسكريون الإيرانيون بأن أميركا وإسرائيل "لا تتجرّآن على القيام بهجوم عسكري على إيران"، إلا أن النبرة العسكرية الإيرانية المتصاعدة أخيراً، ورغم أنها مشفوعة برسائل "القوة والردع"، إلا أنها تُعبر عن قلق ما يساور السلطات الإيرانية من احتمال وقوع مواجهة عسكرية، وتوحي بأن هذا الاحتمال قد خرج من دائرة الاستبعاد الكلي إلى دائرة التوقعات المرجحة في الحسابات الإيرانية. وفي السياق، كان لوزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، تصريح لافت، خلال مؤتمر مونيخ للأمن في فبراير/شباط الماضي، أكد فيه أن التصرفات الإسرائيلية والأميركية "تجعل فرصة نشوب حرب هائلة"، وأن "الخطر هائل". قد تبدو تصريحات ظريف كأنها مجرد محاولة للتركيز على النزعة الحربية لإسرائيل في مؤتمر أمني، لكن لخروج المواجهة الإيرانية-الإسرائيلية من طي الكتمان في سورية إلى العلن، دلالة إضافية على المسار التصاعدي للأحداث والتطورات نحو "مواجهة مباشرة". وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشكل صريح ورسمي أن إسرائيل تشن غارات وهجمات على المواقع الإيرانية في سورية، ما شكل إحراجاً للجانب الإيراني، ودفعه إلى القول على لسان أمين مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، في مقابلة مع وكالة "تسنيم" أخيراً، إن "سورية ستشهد تطوراً بارزاً، وإن الرد على هجمات الكيان الصهيوني فيها خلال العام 2019 سيكون مختلفاً تماماً عن السنوات الماضية"، في حال نفذت إسرائيل تهديداتها بشن المزيد من الهجمات، كماً ونوعاً. وفي المقابل، ردت إيران كما تتوعد بذلك، فإن من شأن ذلك أن يؤدي إلى الخروج عن النطاق السوري إلى ساحات إقليمية أخرى، ويتحول إلى مواجهة مباشرة.
فضلاً عن ذلك، ثمة مؤشرات عملية أخرى تتزايد يوماً بعد يوم، تعزز فرضية وقوع مواجهة عسكرية مع طهران، من بينها التهديدات الإسرائيلية الأخيرة، على لسان نتنياهو، باستهداف ناقلات النفط الإيرانية في المياه الإقليمية، منعاً لـ"تهريب إيران نفطها"، بحسب قوله. يأتي ذلك وسط عودة أميركا للحديث عن اعتزامها تصفير الصادرات النفطية الإيرانية، خلال الفترة القليلة المقبلة، والتي هددت السلطات السياسية والعسكرية في إيران بأنه في حال فعلت أميركا ذلك فإنها "ستمنع تصدير النفط من كل المنطقة"، سواء من خلال إغلاق مضيق هرمز أو اللجوء إلى طرق أخرى. ومن تلك المؤشرات أيضاً، خروج تسريبات أميركية مع بداية العام 2019 تحدثت عن طلبين للرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومستشاره للأمن القومي الأميركي جون بولتون، من البنتاغون خلال 2018، إعداد خطة عسكرية لضرب طهران، أو ضرب زوارق إيرانية عسكرية تقترب من حاملات الطائرات الأميركية في مياه الخليج.
تضاف إلى ما سبق، مؤشرات أخرى، مثل نشر الجيش الأميركي منظومة "ثاد" للدفاع الجوي والصاروخي في إسرائيل، للمرة الأولى، ومحاولات تشكيل "الناتو" العربي، ووصول حاملة الطائرات الأميركية "جون ستينيس" إلى الخليج. وفضلاً عن ذلك، باتت تُشبه تحليلات غربية، منها ما نشرته خلال الشهر الماضي مجلة "فورين بوليسي" التي وصفت مؤتمر وارسو بأنه "قمة حرب ضد إيران"، أجواء التوتر الحالية بين طهران وواشنطن، بتلك التي سبقت غزو العراق في العام 2003. وفي الإطار، تُذكر أحاديث ومصطلحات، يرددها ترامب وصقور إدارته عن إيران، بأنها "أكبر تهديد بالشرق الأوسط"، أو "الراعي الأكبر للإرهاب في العالم"، بما كان يردده الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، ونائب الرئيس الأميركي الأسبق ديك تشيني وغيرهما عن العراق، قبل غزوه.
مع كل ما سبق، لا يبدو أن الإدارة الأميركية بصدد شن هجوم على إيران، في المدى المنظور، في حال وجود قرار بذلك، قبل أن ترى نتائج العقوبات "القاسية" التي أعادت فرضها على طهران. وتقول تحليلات إيرانية إن العام الإيراني الجديد، الذي يبدأ في 21 مارس/آذار الحالي، سيكون عاماً مفصلياً ومصيرياً، تنتظر واشنطن أن تحصد فيه حصاد حربها الاقتصادية على طهران، بعد أن ظهرت معطيات عبرت عن عدم الرضى الأميركي كثيراً عن مفعول العقوبات حتى هذه اللحظة، وربما هذا ما حدا بنتنياهو إلى التهديد بضرب ناقلات النفط الإيرانية. إلا أنه في حال نجحت طهران في الالتفاف على العقوبات الأميركية بالقدر الذي يُسير أمور البلاد، ولم تحقق هذه العقوبات المطلوب أميركياً الذي تقول طهران إنه يتمثل في تأليب الشارع الإيراني على النظام خلال العام الإيراني الجديد، فإنه من المحتمل، بحسب تحليلات إيرانية، أن تقوم إسرائيل وأميركا معاً، أو هذه الأخيرة منفردة، بهجمات عسكرية محدودة، سواء على ناقلات النفط الإيراني، أو مواقع داخل إيران، لإعطاء نكهة عسكرية للعقوبات وتسريع مفعولها، بحيث ينهار الاقتصاد الإيراني المتردي. ويتضح من التحليلات أن توسيع نطاق المواجهة لتتحول إلى حرب شاملة، يتوقف على الرد الإيراني على تلك "الهجمات المحدودة". وقال الرئيس الإيراني حسن روحاني، أمس الإثنين، إن حكومته ستقيم دعوى قانونية في إيران ضد المسؤولين الأميركيين الذين فرضوا عقوبات على طهران كإجراء تمهيدي قبل نقلها إلى محاكم دولية. وأشار إلى أن العقوبات الأميركية خلقت بعض الصعوبات، من بينها إضعاف قيمة الريال الإيراني، وهو الأمر الذي تسبب في تفاقم التضخم. وأضاف: "الأميركيون لديهم هدف واحد فقط: يريدون العودة إلى إيران وأن يحكموا الأمة مرة أخرى". وثمة رأي آخر له وجاهته أيضاً، مؤداه أن تجربة الحربين الفاشلتين على أفغانستان والعراق تكفي لتمنع واشنطن من شن حرب أخرى على طهران، وأن السياسة الأميركية الراهنة في الضغط على إيران، ستبقى دون مستوى الحرب التي يقول أصحاب هذا الرأي، إنها كانت خياراً أميركياً في القرن العشرين، بينما خيار واشنطن اليوم هو توظيف أدوات ناعمة لتحقيق غايات، كانت تهدف إليها عبر الحروب سابقاً.
منسوب التوتر بين إيران وأميركا وحلفائها الإقليميين، خصوصاً إسرائيل، في ارتفاع مستمر وملحوظ، وأصبح يتخذ طابعاً عسكرياً شيئاً فشيئاً، ما يجعله مفتوحاً على أسوأ الاحتمالات خلال الفترة المقبلة، خصوصاً إذا فشلت العقوبات الأميركية في تحقيق أهدافها، التي تقول إيران إنها تتمثل في السعي إلى تغيير نظامها، فيما تعتبر أميركا أنها تهدف إلى تغيير السلوك الإيراني في المنطقة؛ خصوصاً أن من يدير البيت الأبيض اليوم، يستمع أكثر من أسلافه إلى حلفاء واشنطن، وتحديداً الإسرائيليين. وما رفضه الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، من نصائح وطلبات لحلفاء أميركا الإقليميين، بشن حرب على إيران، كشف عنها وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قد يجد آذاناً صاغية اليوم في مراكز صناعة القرار الأميركي في ظل وجود دونالد ترامب. وفي هذا السياق، إن رفع إيران نبرتها عسكرياً، من خلال تصريحات قادتها العسكريين والإجراءات العسكرية "المتصاعدة"، يحمل جملة رسائل في أكثر من اتجاه، أولاها ردع "الأعداء" من شن حرب تزايدت مؤشراتها، في وقت هي بغنى عنها، إذ تخوض حرباً اقتصادية، وصفها أكثر من مسؤول إيراني بأنها أشد وطأة من الحرب العسكرية، وثانيها طمأنة الشارع الإيراني الذي باتت لديه مخاوف حقيقية بشأن مستقبل الأوضاع على وقع التحديات والتهديدات الجسام التي تواجهها البلاد.