مفاوضات سياسية لا فنية
وبحسب المصادر الدبلوماسية، فإن الإدارة الأميركية أكدت للأطراف الثلاثة، وكذلك البنك الدولي، أن المفاوضات ستكون سياسية الطابع وليست فنية، لكنها ستحاول الوصول إلى خارطة طريق واضحة لمفاوضات جادة وجديدة على المستوى الفني، يجب أن تكون لها مخرجات واضحة ومعبرة عن روح اتفاق المبادئ الموقع بين الدول الثلاث في مارس/آذار 2015.
ويعتبر استبعاد المسار الفني من مفاوضات واشنطن إحباطاً لمساعي مصر السابقة، إذ كانت إدارة ترامب تحاول إقناع السودان وإثيوبيا بحضور وزراء المياه والري، بعدما كانت قد أشارت إلى عدم حضورهم في الاتصالات الأولى التي أدارها وزير الخارجية مايك بومبيو. ودعمت مصر بقوة هذا الطرح، كما وافقت السودان مبدئياً، لكن الجانب الإثيوبي ممثلاً في وزير المياه والطاقة سيليشي بيكيلي ظلّ يرفضه تماماً، ويتمسك باستقلال المفاوضات الفنية عن المسار السياسي أو حتى الاستخباري، بحسب المصادر الدبلوماسية المصرية. وأضافت هذه المصادر أن الوزير الإثيوبي يخشى توريطه ووضعه أمام حلول غير مرغوبة بقوة الأمر الواقع، ولذلك فهو يواصل تمسكه باستقلال المفاوضات الفنية تماماً خلال المحادثات التي تجري داخل الحكومة الإثيوبية.
وبحسب المصادر، من المتوقع إدلاء منوتشين بحديثٍ صحافي بعد اللقاء، الذي من المرجح أن يستغرق ساعات عدة. كما أن رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس، والمتوقع حضوره - أو أحد مساعديه - سيدلي بتصريحات عن نوع المساعدة التي من الممكن تقديمها لحل النزاع. وكان سبق للقاهرة أن اقترحت تدخل البنك الدولي كطرف وسيط، لكن أديس أبابا رفضت.
وترى المصادر الدبلوماسية المصرية أن أهم ما يمكن إنتاجه من هذا اللقاء والبناء عليه، هو اتفاق واضح بشأن خارطة زمنية عاجلة وقصيرة الأمد للمفاوضات الفنية، وكذلك مدى إمكانية اشتراك أطراف جديدة في المفاوضات الفنية، مثل البنك الدولي أو أي شركات استشارية عالمية يمكن التعاقد معها. كما من الممكن تجديد التعامل مع المكتب الاستشاري الهولندي "دلتارس"، الذي أعد الدراسة الوحيدة المتكاملة عن القضية، لحضور الاجتماعات لإعادة تقديم بعض المعلومات، مع التركيز على جوانب جديدة خاصة بإدارة فترة الملء الأول لخزان السد.
عدم ارتياح إثيوبي
من جهته، قال مصدر إعلامي إثيوبي، يعمل في صحيفة محلية تابعة لتحالف الجبهة الديمقراطية الشعبية الحاكم، إن هناك حالة من عدم الارتياح في أديس أبابا من هذا الاجتماع، بسبب ما تلحظه الحكومة من استجابة أميركية سريعة للطلبات والمخاوف المصرية. وأضاف المصدر نقلاً عن شخصيات قيادية في الحزب الحاكم، إنه "على الرغم من القبول بعدم حضور وزراء المياه بناء على طلب إثيوبيا، إلا أن الاتصال الذي جرى بين ترامب ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي (أول من أمس الإثنين)، يبدو خطوة في سبيل حشد ضغوط أميركية على إثيوبيا لتقديم تنازلات".
وفي معرض تعليقه على الاتصال الذي دار بينهما، وصف السيسي ترامب بأنه "رجل من طراز فريد ويمتلك القوة لمواجهة الأزمات والتعامل معها، وإيجاد حلول حاسمة لها". وأضاف "أجدد امتناني الشخصي وتقدير مصر للرئيس ترامب على الجهود التي يبذلها لرعاية المفاوضات الثلاثية حول سد النهضة، وأؤكد على ثقتي الكاملة في هذه الرعاية الكريمة، والتي من شأنها إيجاد سبيل توافقي يرعى حقوق كافة الأطراف في إطار قواعد القانون الدولي والعدالة الإنسانية".
وكان المصدر الإثيوبي قد أوضح في وقت سابق لـ"العربي الجديد" أن أحد أسباب تحفظ بلاده على المشاركة في اللقاء حتى الأسبوع الماضي، هو التوتر الأخير الذي أصاب العلاقات بين أديس أبابا وواشنطن بسبب بيانات أصدرتها السفارة الأميركية بخصوص التظاهرات الشعبية التي خرجت أخيراً في مناطق الأورومو. وتعود هذه التظاهرات إلى غضب أنصار المعارض الأورومي جوار محمد من محاولة السلطات إبعاد موظفي حمايته الشخصية عنه. واعتبرت دوائر عديدة في الحزب الحاكم البيانات الأميركية، التي صدرت عن السفير الأميركي في أديس أبابا مايكل راينور، بمثابة تدخل في الشأن الداخلي الإثيوبي.
فشل مصري في استمالة دول أوروبية
وعلى الصعيد الرسمي، تعتبر واشنطن أكثر العواصم مساندة لموقف القاهرة حالياً، إذ فشلت الأخيرة حتى الآن في استمالة العواصم الأوروبية والآسيوية التي تعمل شركاتها في مشروع السد. ويأتي هذا الفشل على الرغم من اللقاءات الدبلوماسية العديدة التي عقدتها القاهرة، ومحادثاتها غير المعلنة التي سبق لـ"العربي الجديد" أن كشفت تفاصيلها في 11 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. ووصل الأمر إلى حدّ إبلاغ سفراء ألمانيا وإيطاليا والصين رسمياً استياء مصر من "مواصلة تلك الشركات العمل في السد على الرغم من عدم وجود دراسات حول الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية له على مصر، وكذلك رغم علمها بتعثر المفاوضات بسبب تشدد الجانب الإثيوبي".
واستطاعت إثيوبيا على مدار الشهور الماضية التصدي سياسياً للرؤية المصرية، وترويجها لحجم الخسائر الحياتية والاقتصادية المباشرة التي ستترتب على إنشاء السد ثم تشغيله بالصيغة التي اقترحتها في اجتماعات العام الماضي. وتحدد هذه الصيغة المرحلة الأولى من المراحل الخمس لملء السد بعامين، وفي نهاية المطاف سيتم ملء خزان السد في إثيوبيا إلى 595 متراً، وستصبح جميع توربينات الطاقة الكهرومائية فيه جاهزة للعمل. وسيؤدي انتهاء هذه المرحلة إلى تناقص كبير في منسوب المياه في بحيرة ناصر جنوب السدّ العالي، خصوصاً إذا انخفض منسوب الفيضان في العامين المقبلين، ليقل عن مستوى 170 متراً، ما يعني خسارة 12 ألف فدان من الأراضي القابلة للزراعة في الدلتا والصعيد كمرحلة أولى، من إجمالي 200 ألف فدان تتوقع وزارة الموارد المائية والري المصرية خروجها نتيجة المدة الإجمالية للملء.
مبررات إثيوبية
من جهته، يستند الموقف الإثيوبي إلى أن الحفاظ على منسوب المياه في بحيرة ناصر عند 165 أو 170 متراً قد يؤدي إلى حرمانهم من إمكانية الملء لشهور عديدة متتابعة، نظراً لتدني مستوى الفيضان في بعض الأحيان إلى أقل من 30 مليار متر مكعب، وبالتالي فإنهم يعتقدون بأن المحددات لا يمكن أن تقاس بأي مؤشر في دولة المصب. ويرد الإثيوبيون على المقترحات المصرية أيضاً بأنها جميعاً - بما في ذلك مقترح الملء في 7 سنوات - ربما تؤدي إلى إفشال المشروع بالكامل، وهم يقدمون إلى الجهات الدولية والعواصم الوسيطة بيانات إحصائية تؤيد هذه المخاوف. وتنعكس هذه الخطوة على المستثمرين والشركات الكبرى الأوروبية والعربية التي ترغب في استغلال ما سيحققه السد من نجاحات محلية في توليد الطاقة الكهربية وتوفير مزارع سمكية، وترشيد للمياه بإعادة استخدامها في الري المنتظم لمساحات أوسع من الأراضي غير المستغلة. وتمثل هذه القطاعات فرصاً للاستثمار السهل والمضمون، في دولة تشهد تحولات اقتصادية عميقة للأفضل، وتدل كل مؤشراتها الاقتصادية على أنها تسير بثبات نحو طريق النهضة.
وكان البيت الأبيض قد أصدر بياناً عشية انطلاق الجولة الأخيرة التي فشلت من المفاوضات الثلاثية بين وزراء الموارد المائية والري للدول الثلاث بالخرطوم، أعلن فيه دعم الأطراف الثلاثة في السعي للتوصل إلى اتفاق على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة يحقق المصالح المشتركة للدول الثلاث. وطالبت الولايات المتحدة الأطراف الثلاثة بإبداء حُسن النية للتوصل إلى اتفاق يحافظ على الحق في التنمية الاقتصادية والرخاء، وفي الوقت ذاته يحترم بموجبه كل طرف حقوق الطرف الآخر في مياه النيل.
لكن فشل جولة المفاوضات على الرغم من المناشدة الأميركية، دفع السيسي للمطالبة العلنية للمرة الأولى بتدخل واشنطن. وأصدر الرئيس المصري في الخامس من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي بياناً قال فيه إن بلاده "تتطلع لقيام الولايات المتحدة بدور فعال في هذا الصدد، خاصة على ضوء وصول المفاوضات بين الدول الثلاث إلى طريق مسدود، بعد مرور أكثر من أربع سنوات من المفاوضات المباشرة منذ التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في 2015، وهي المفاوضات التي لم تفض إلى تحقيق أي تقدم ملموس، ما يعكس الحاجة إلى دور دولي فعال لتجاوز التعثر الحالي في المفاوضات، وتقريب وجهات النظر بين الدول الثلاث، والتوصل لاتفاق عادل ومتوازن يقوم على احترام مبادئ القانون الدولي الحاكمة لإدارة واستخدام الأنهار الدولية، والتي تتيح للدول الاستفادة من مواردها المائية دون الإضرار بمصالح وحقوق الأطراف الأخرى".
وبحسب مصادر دبلوماسية مصرية تحدثت لـ"العربي الجديد" في 26 أكتوبر الماضي، فإن وزارة الخارجية المصرية طلبت من نظيرتها الأميركية المبادرة إلى اتخاذ خطوة وساطة من نفسها، بدلاً من انتظار التوافق الثلاثي على اللجوء لها، وفقاً للصياغة غير الموفقة للمبدأ العاشر من اتفاق المبادئ، والذي يشترط "اتفاق الدول الثلاث" لاستدعاء الوساطة.