انتفاضة لبنان بعيون المتظاهرين: لحظة تاريخية وتأسيسية

23 أكتوبر 2019
يتظاهر اللبنانيون ضدّ الفساد في الدولة (حسين بيضون)
+ الخط -
"ورقة إصلاحات بلا إصلاحات"، هو الرأي الذي عبّرت عنه غالبية المتظاهرين في مختلف المناطق اللبنانية، وذلك رداً على الورقة التي أقرتها الحكومة اللبنانية أول من أمس، الإثنين، وحاولت تسويقها على أنها تتضمن حلولاً للأزمات التي يعاني منها اللبنانيون وأنها كفيلة بتلبية مطالبهم وإقناعهم بالخروج من الشارع. لكن لم يلحظ معظم اللبنانيين من الذين خرجوا في مختلف المناطق إلى الساحات منددين بالفساد المستشري في مؤسسات الدولة، ومطالبين بإسقاط الحكومة ومحاكمة الفاسدين من الطبقة السياسية، مطلقين شرارة الثورة، أي خطوات فعلية في هذا الاتجاه، مؤكدين على مواصلة انتفاضتهم على الرغم من استمرار الأحزاب الحاكمة الحملات الترهيبية بمختلف الطرق لإجهاض التظاهرات وإعادة إمساك زمام المبادرة والسيطرة على الشارع من جديد والذي يبدو أنه فُقد منها، بعدما اتحد الشعب اللبناني بكل مكوناته وطوائفه ضدها.

وبدخول الانتفاضة اللبنانية يومها السابع، يبدو واضحاً أن حجم التحديات يكبر، خصوصاً بعد انتقال السلطة من محاولة استرضاء المحتجين عبر "ورقة الإصلاحات" إلى مرحلة السعي لكسر الاحتجاجات عبر سلسلة من الإجراءات الترهيبية المباشرة أو غير المباشرة.

ويدرك المحتجون الموزعون على مختلف المناطق اللبنانية، بدءاً من بيروت وصولاً إلى الشمال وحتى أقصى الجنوب، أن ما تحقق حتى اليوم يتيح الحديث عن ثورة يشهدها لبنان، لا مجرّد حركة احتجاجية عابرة. ويذهب كثر منهم إلى وصف 17 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، موعد خروج أولى التظاهرات العفوية، بأنه لحظة تأسيسية غير مسبوقة في تاريخ لبنان، وأنّ ما بعدها، وأياً كانت المسارات النهائية للانتفاضة، لن يكون كما قبلها على صعيد العلاقة بين السلطة والشعب، الذي أثبت أن بإمكانه قلب الطاولة على جميع القوى السياسية. لكنهم يعرفون أيضاً أنّ المواجهة مع السلطة لن تكون يسيرة، وأنّ الأخيرة لن تتنازل بسهولة عن الحكم، والأدوات التي تملكها متشعبة ومتنوعة بدءاً من سلاحي التخوين والترهيب اللذين ظهرا بقوة في الأيام الماضية. وهو ما يتطلب حذراً دائماً ووجوداً مستمراً في الشارع على قاعدة سياسة النفس الطويل التي يجب أن يتحلى بها المشاركون في الثورات وذلك لضمان نجاحهم عبر ممارسة أقصى الضغوط على من يتقاسمون الحكم، لإبقائهم محاصرين ومضطرين للبحث عن حلول، لأنه مع كل تنازل تجبر عليه السلطة يزيد ضعفها وتكبر خلافاتها ويصبح إسقاطها أسهل. لهذا، فإن التعويل الأول هو على إبقاء الزخم في الشارع لتعميق مأزق السلطة، أخذاً بالاعتبار أنّ أكثر ما يربكها يتمثل في معرفتها أنها تواجه انتفاضة غير مسبوقة. وعلى عكس تحركات سابقة، كانت محدودة، إن لجهة المناطق التي خرجت فيها أو لجهة الفئات التي شاركت فيها، فإنّ السلطة منذ يوم الخميس الماضي تواجه انتفاضة شعبية تعم لبنان. وأظهرت شعارات هذه الانتفاضة بما في ذلك الشتيمة السياسية الحاضرة بقوة كأحد أوجه الاعتراض على الطبقة الحاكمة، وخارطة المناطق المشاركة، كيف أنها كسرت العديد من الخطوط الحمراء السياسية والمحرمات على قاعدة "كلن يعني كلن"، والتي تشمل جميع الأحزاب والزعماء السياسيين بمختلف انتماءاتهم الحزبية والطائفية.

وقال الدكتور ناجي صفير، من حراك منطقة كسروان، وسط لبنان، ذات الأغلبية المسيحية: إنّ "الورقة (الإصلاحية) هي محاولة تخدير للناس وهي غير قابلة للتطبيق اقتصادياً في الفترات التي تكلّم عنها الرئيس سعد الحريري، فهي بحاجة إلى مسارات قانونية عدة، فضلاً عن أنّ ما قدّم لا يعدّ إصلاحات وإنما هو حقوق بديهية للمواطنين". وتابع "المشكلة الأكبر مع قرارات الحريري الأخيرة أنها أثبتت عدم كفاءة حكومته خلال السنوات الثلاث الماضية، وغداً يخرج علينا ويقول إنني كنت أريد تنفيذ القرارات ولكنهم عرقلوني".

وأضاف صفير في حديث مع "العربي الجديد": "جربنا هذه الطبقة الحاكمة أكثر من مرة وكانت النتائج سلبية دائماً، والآن لن نغادر الساحات قبل استقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة بحماية دولية، وتشكيل حكومة طوارئ تسيّر أمور البلاد". وأكّد أنّ "إسقاط الحكومة بات أمراً حتمياً وغير ذلك نكون قد أضعنا كل التعب، ولا نقول إسقاط النظام لأن هذه العبارة فضفاضة في المرحلة الحالية".

واعتبر صفير أنّ "الدولة العميقة لن تترك الحكم بسهولة، والحاكمون الآن يحاولون بمختلف الطرق إيقاف الثورة وقمعها، مراهنين على تعبنا، ولكن تعب الناس المعيشي والاقتصادي أكبر بكثير من التعب الذي قد ينجم عن بقائها في الساحات، وهناك حرفياً عائلات ليس لديها ثمن الخبز". وقال "لذلك نحن ذاهبون نحو معركة مع هذه السلطة التي تريد البقاء، فيما نحن نريد رحيلها من أجل الحصول على حكم رشيد ونظيف خالٍ من الفساد".

وأشار إلى أنه "رأينا في الساحات خلال هذه الأيام أشخاصاً لم نكن نتوقّع أبداً أن يخرجوا في يوم من الأيام ويتظاهروا، فالوضع المعيشي وحّد الناس بكل شرائحها ضدّ السلطة، من فقراء إلى أصحاب مؤسسات وشركات وغيرهم. لذا ما يحصل على الأرض ليس عابراً ولا يمكن التشكيك بقدرات الشعب بعد الآن، على الرغم من كل محاولات السلطة للتأثير على الثورة الشعبية، وتحرّك الطابور الخامس، فهؤلاء سيستشرسون من أجل الدفاع عن مواقعهم، ولكن نحن باقون، وعلى الأجهزة الأمنية من جيش وقوى أمن داخلي حمايتنا، فهذه مهمتها الأساسية".

ولفت صفير إلى أنهم في حراك منطقة كسروان باشروا في عقد اجتماعات من أجل وضع خطة للأيام الـ15 المقبلة من التحركات، وسيعمدون إلى التواصل مع مجموعات في مناطق لبنانية أخرى للتنسيق من أجل هذا الهدف.

أما محمد جام، من مدينة صور، بجنوب لبنان، ذات الغالبية الشيعية وتعدّ السيطرة فيها لـ"حزب الله" و"حركة أمل"، فقال في حديث مع "العربي الجديد": "إنّ ورقة الحريري تعاملت مع الأمور بسطحية وطرحت عموميات، ولم تتطرّق إلى جوهر الفساد، بل ما طرحته مجرد عناوين، كما لم تحدد الآلية التي ستعيد بها الأموال المنهوبة إلى الشعب وغيرها من القرارات. فضلاً عن أنه من المستغرب أنّ السلطة المتهمة بالفساد والسرقة هي التي ستعيد الحقوق للشعب".

وأكّد جام أنّ "الحراك في صور متواصل، على الرغم من كل محاولات الترهيب والإفشال التي تعرّض ويتعرّض لها". لكنه لفت إلى أنّ "المواطنين الذين نزلوا إلى الشارع، هم في النهاية قواعد شعبية للموجودين في السلطة والذين يحاولون التأثير عليهم، وكذلك هناك أشخاص على الرغم من وجعهم، لكنهم يريدون تسيير أمورهم الحياتية، ولذلك قد يخفت زخم الناس بعض الشيء". وتابع "في المقابل، هناك الكثيرون الذين يرفضون ترك الساحات ولا يريدون فقدان الأمل الذي شعروا به في الأيام الأخيرة بإمكانية التغيير".

وأشار جام إلى أنّ "مؤسسات السلطة فتحت أبوابها في منطقة صور، أمس، وهددت الموظفين بأنهم إذا لم يعودوا إلى عملهم فسيتم طردهم. كما أنّ المدارس الرسمية فتحت أبوابها، وبالتالي عاد الأساتذة الذين يعدون جزءاً أساسياً من التحركات، لممارسة مهنتهم، وهو ما يفسّر تراجع الأعداد قليلاً في الفترة الصباحية ليعود الحشد لاحقاً في الفترة المسائية".

وأكّد جام أنّ "الضغط على الأرض في صور كبير جداً، فهي معقل لحزبين رئيسيين داخل الطائفة الشيعية. وبعد القمع المسلّح الذي رأيناه في بداية الحراك، فإن قوى السلطة في المدينة بدأت تستخدم أساليب أخرى لاستعادة زمام المبادرة، من خلال الترهيب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، واستخدام الأهل للضغط على أبنائهم المشاركين، هذا فضلاً عن تخوين الناس واتهامهم بعدم الوفاء، كالقول لهم: إنكم خنتم مسيرة 30 عاماً ضحّى خلالها الحزبان المسيطران في المنطقة، وإنه لولانا لما كان لديكم طرقات، وكذلك القول لهم إن هذا الحراك موجّه ضدّ سلاح المقاومة".

والمشكلة الأساسية اليوم، برأي جام، بالنسبة للمرحلة المقبلة، هي أنّ "الحراك بشكل عام ليس له قيادات تواجه السلطة وتحاججها بالمسائل الاقتصادية التي تطرحها"، مؤكداً أنه "يجب أن يكون هناك منظرون اقتصاديون يواجهون الحكام ويعرونهم أكثر، فغياب هؤلاء عقبة أساسية في مواجهة السلطة في المرحلة المقبلة".

واعتبر جام أنه "إذا فشل الحراك اليوم، فإن السلطة ستستشرس لتعيد السطوة والهيمنة إليها"، مشيراً إلى أنّ "المخاوف كبيرة، ولكن لا بدّ من التنويه بمسألة أنّ حاجز الخوف قد انكسر، وأصبح هناك رأي ثالث في الجنوب يقول أصحابه نحن غير تابعين ولدينا رأي ونريد أن نعيش بكرامة إلى جانب محاربتنا لإسرائيل".

أما بادية فحص، من مدينة النبطية، فأكدت في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "الاحتجاجات لم تخفت في المدينة الجنوبية ولا تزال بالزخم نفسه بدون كلل ولا ملل، علماً أن الحشد يختلف من فترة إلى أخرى ويكون في ذروته مساءً".

وقالت فحص إنّ الورقة التي أعلنها الحريري "لم تعنِ أهالي النبطية، كما كل المناطق اللبنانية الأخرى، ونحن مصرون على مطالبنا بإسقاط الحكومة والنظام، ومحاكمة الفاسدين ومعالجة الأزمات التي يعاني منها اللبنانيون ولا سيما الاقتصادية".

وأشارت فحص إلى حملات "الترهيب الحقيقي في النبطية، التي يعرف غالبية سكانها، وإن بحكم الأمر الواقع وبسبب غياب الدولة والفرص البديلة، بانتمائهم إلى الحزبين المسيطرين اللذين يؤمنان لهم الوظائف كحركة أمل، في حين يعمل حزب الله على دفع رواتب للملتحقين في صفوفه. وبالتالي فإنّ فئة المتظاهرين غير التابعين اليوم تعدّ أقلية". وقالت إنّ "هناك ضغطاً اجتماعياً وسياسياً كبيرين، وهو ما جعلنا نلجأ إلى سياسة تدوير الزوايا، كأن نشمل وزراء ونواب الحزبين في المنطقة ضمناً داخل السلطة الفاسدة تحت شعار كلن يعني كلن، بعدما كنا قد أطلقنا شعارات مباشرة وعلنية ضد مسؤولي الحزبين في اليوم الأول، لينزل بعدها عناصر بالأسلحة لقمعنا".

ولفتت إلى أنّ بلدية النبطية التابعة لـ"حزب الله"، "تقوم اليوم بالضغط على المتظاهرين بطرق شتى، وقد عمدت أخيراً إلى تحريض أهل المدينة ضدّ المحتجين، إذ تقول إن هؤلاء يغلقون المتاجر ويقطعون الأرزاق، فضلاً عن كلام عن أنه لا يمكن للوضع أن يستمرّ هكذا، وهو ما يؤشّر إلى أنهم يتجهون لقمعنا"، وفق تعبيرها.

وعن المرحلة المقبلة، قالت فحص "مثل كل المناطق ليست لدينا رؤية واضحة حول ما يمكن أن يحصل وإلى أين يذهب الحراك. المواطنون يعرفون ما يريدون من السلطة، ولكن الأخيرة لا تتزحزح، لا بل تقوم باستخدام أساليب عدة لإنهاء الحراك تدريجياً، وتحويل الناس ضده، لقلب الطاولة على المتظاهرين، وذلك عبر المراهنة على عامل الوقت لتفريغ الحراك من ناسه". لكنها أكّدت أنّ "الأمل ما زال كبيراً وكل تحرك مرهون بساعته، فالأشياء غير المنظمة تتوارد لها الحلول بوقتها، ولا سيما بالنسبة لردة فعل الناس بحال تعرضوا لمزيد من القمع". وأضافت "المشوار ما زال طويلاً، إذ إنه لا يمكن لسلطة متجذرة وعملت على مدى عقود على تغذية الناس بمفاهيم معينة، وفي ظلّ غياب الشعور بالمواطنة، أن يتم تغيير هذه الأمور في غضون أيام، ولكن يمكن القول إن ما حصل هو بمثابة عمل تأسيسي". وختمت بالقول "كل ما يحصل في لبنان هو انتفاضة، إنما في النبطية هو ثورة، فلم يكن أحد يتصور أن النبطية ستخرج من التبعية وسيطرة الحزبين الرئيسيين هنا".

بدورها، قالت الصحافية مطيعة حلاق، من مدينة طرابلس، شمال لبنان، ذات الغالبية السنية، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "زخم الاحتجاجات متواصل، وهناك تنظيم كبير للحراك في عاصمة الشمال، وهو ما يؤدي إلى تطمين الناس نفسياً ويحثهم على مواصلة النزول". ورأت كذلك أنّ "طرابلس مثل كل مناطق لبنان رأت أنّ لا ورقة إصلاحية فعلية تم إقرارها، والمطالب الأساسية لأهالي طرابلس المهمشين والذين يعانون الحرمان والفقر، لم تتوفّر". وأكّدت أنّ المطلوب اليوم "هو ورقة إصلاحية حقيقية تعالج مشاكل الشعب فعلياً، وليس تقديم مقترحات تجميلية".

وعبّرت حلاق عن اعتقادها بأن "المواطنين بكل شرائحهم في طرابلس سيواصلون حراكهم، لأن الوجع طاولهم جميعاً من دون استثناء"، مشيرةً إلى أنّ "المدينة تبدو فارغة، وكل المؤسسات مغلقة في اليوم السادس لبدء الاحتجاجات". ولفتت إلى أنّ "الخوف في طرابلس انكسر والكثيرون تحرروا من التبعية السياسية والالتصاق بالزعيم".

المساهمون