تشهد تونس هذه الأيام جدلاً بسبب قرارٍ أصدرته حكومة إلياس الفخفاخ في الثاني من مايو/أيار الحالي، ويقضي بإسناد صلاحية تسيير العمل القضائي ومرافق العدالة لوزارة العدل، الأمر الذي أثار حفيظة الجمعية التونسية للقضاة ونقابة القضاة. وأكدت الجمعية والنقابة، أن هذا القرار يعتبر خرقاً للدستور ولمبادئ استقلال القضاء ودولة القانون، في الوقت الذي ترى فيه أطرافٌ أخرى أن الظرف الذي تمر فيه تونس بسبب جائحة كورونا استثنائي، وأن صدور مثل هذه المراسيم يهدف إلى تنظيم العمل القضائي، ولا بد من مساعدة الدولة في حربها ضد الوباء.
وقالت رئيسة نقابة القضاة التونسيين، القاضية أميرة العمري، إن الأمر الحكومي رقم 208 المؤرخ في الثاني من مايو "يمثل خرقاً للدستور وضرباً خطيراً لاستقلالية القضاء ومحاولةً للسطو على الصلاحيات"، معتبرة أن الحكومة تريد السيطرة على القضاء وإعادته إلى السلطة التنفيذية، ما يمثل تجاوزاً غير مقبول، لن يتم السكوت عنه. وشدّدت العمري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، على أن "الظرف الاستثنائي الذي تمر به البلاد، لن يكون شماعةً لتمرير مثل هذه الأوامر التي تعتبر محاولة لوضع اليد على القضاء".
ورأت العمري أن هذا المرسوم "هو محاولةً لتركيع السلطة القضائية وخرق مبادئ استقلال القضاء ودولة القانون"، لافتة إلى أن المجلس الأعلى للقضاء "هو الهيئة الدستورية الوحيدة الموكول إليها صلاحية تسيير المرفق القضائي بحسب الدستور والقانون المنظم للهيكل، والصادر في العام 2016". وأوضحت رئيسة نقابة القضاة التونسيين، أن تجاوز المجلس الأعلى للقضاء "يعتبر محاولةً غير بريئة لن يتم الصمت عليها، فالإشكال ليس في وزارة العدل، أو في تنازع على صلاحيات، بل على مبدأ أساسي يتعلق باستقلالية القضاء، ولا يمكن أن يكون التعليل هو الظرف الاستثنائي الذي تمر به البلاد". وإذ بيّنت وجود "وعي حول ذلك (الوباء)"، إلا أن ما حصل برأيها "خطير وإذا لوحظ أي تجاوزات أو تمادٍ، فإن نقابة القضاة مستعدة للتصعيد بأي شكل نضالي وقانوني".
من جهتها، نقلت عضو الجمعية التونسية للقضاة، القاضية لمياء الماجري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، تنديد جمعية القضاة بالأمر الحكومي، لا سيما أنه يسند لوزيرة العدل (ثريا الجريبي) مهمة تسيير العودة التدريجية لعمل القضاة، مشيرة إلى أن إسناد هذا الاختصاص للوزيرة "يتضمن خرقاً للدستور الذي ينصّ صراحة على استقلال السلطة القضائية"، أما الهيكل المشرف على السلطة القضائية فهو المجلس الأعلى للقضاء.
وأكدت الماجري أن السلطة التنفيذية "تحاول استغلال الفرصة والظرف الحرج لتمرير مراسيم وأوامر غير دستورية، ما يمثّل خرقاً للقانون"، مشيرة إلى أن من أهم مكاسب تونس ما بعد الثورة "هو الفصل بين السلطتين القضائية والتنفيذية، ووضع حدٍّ لكل ما يمكن أن يجعل القضاء تابعاً للسلطة، ما يفسح المجال لتضارب المصالح ويجعله في قبضة السلطة السياسية". ولفتت إلى أنّ ما حصل يعيد تونس إلى المربع الأول، وإلى دستور العام 1956 الذي مكّن رئيس الدولة من ترؤس مجلس القضاء في حين أن المجلس يرأسه اليوم قاضٍ منتخب، مبينة أنه لا يمكن بأمر حكومي العودة إلى الوراء وتوجيه القضاء من قبل وزارة العدل التي تمثل السلطة التنفيذية.
وتعليقاً على ذلك، رأى أستاذ القانون الدستوري، أمين محفوظ، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّه كان يجدر بالمجلس الأعلى للقضاء الامتثال إلى النصوص القانونية الصادرة عن الحكومة، سواء كانت مراسيم أو أوامر، لأن القضاء هو مرفق عمومي، ومن دون سلطة تنفيذية لا وجود للمرفق العمومي، كما أنه من دون مرفق عمومي لا عدالة. وبالتالي، برأيه، كان لا بد من الإمتثال لهذا الأمر أو الطعن فيه لدى القضاء الإداري، أما الجدل الحاصل والتنديد وبيانات الرفض وعدم الامتثال للأمر، فتنتج عنها مشاكل قانونية ورسائل غير طيبة عن احترام القوانين والمؤسسات، كما أن التنديد لا يمكن له أن يلغي مفاعيل أمر حكومي.
ورأى محفوظ أن الجدل الحاصل ينخرط في إطار تفكك أجهزة الدولة وعدم الإنسجام في ما بينها، بمعنى أن الإشكال كان من الممكن تجاوزه إلى حين مرور هذا الظرف الاستثنائي، وهو مجابهة انتشار فيروس كورونا. وشدد على أن تونس تمر بظرف استثنائي والحكومة بإصدارها مثل هذه الأوامر، حتى وإن تخللتها بعض الأخطاء، فإنها تصدرها بناء على توصيات لجنة علمية. ولفت إلى أنه في هذا الظرف الدقيق، تمتثل السلطات التقليدية لكل الآراء الصادرة عن اللجنة العلمية المتعلقة بمجابهة كورونا، مؤكداً أن مسألة استقلالية القضاء كثيراً ما كانت محل نقاش، فالاستقلالية ليست نصّاً يكتب والقضاء يكون مستقلاً عندما يتصرف في دولة القانون وليس في حكومة القضاة، أي من خلال القطع نهائيا مع الموروث والقوانين البالية التي تصادر الحريات.
وبحسب الخبير القانوني أخيراً، فإن القضاء ليس قضاة فقط، بل أجهزة وكتبة ومتقاضون، والتقاضي هو حق دستوري، وصدور هذا الأمر هدفه تسيير التقاضي للمتقاضين. ورأى أنه "على الرغم من صحة أن الأمر من اختصاص المجلس الأعلى للقضاء، بحسب الدستور، لكن يجب ألا ننسى أن الحكومة هي التي تضبط السياسة العامة للدولة وتمارس السلطة الترتيبية العامة وتتصرف في الإدارة، ودونها لا قيمة للمجلس الأعلى للقضاء"، فيما يضاف إلى ذلك "تداعيات الظرف الاستثنائي، علماً أنه يمكن حل المسألة بهدوء وليس عن طريق التمرد على النصوص القانونية".