اليمين الأميركي البديل... فاشيون في قلب واشنطن

21 ديسمبر 2016
من تظاهرات ضد بانون ومستشاري ترامب (راين ماكبريد/فرانس برس)
+ الخط -

دفع انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، للحديث عن اليمين البديل (Alternative Right) إلى الواجهة من جديد، بسبب التقاطعات بين الطرفين طوال مدة الحملة الانتخابية لترامب، واستناداً على دعم اليمين البديل الأميركي له، ومكافأة الأخير لهذا التيار المتطرف بتعيين أحد المقربين منه، ستيف بانون ناشر موقع (Breitbart)، في مركز كبير المستشارين الاستراتيجيين في البيت الأبيض.
اعتُبرت "ظاهرة ترامب" سنداً لليمين الأميركي المتطرف، ولم يخفِ الرئيس المنتخب مغازلته هذا التيار أثناء الحملة الانتخابية، فعيّن بانون رئيساً لحملته الانتخابية، ونشر باكراً جداً، في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2015، صورة له عبر "تويتر" على هيئة "بيبي الضفدع" (Pepe The Frog) والذي يُعتبر رمزاً كاريكاتورياً يستخدمه اليمين المتطرف الأميركي منذ سنوات. الصورة لا تُعبّر إلا عن مغازلة مباشرة، وإلا فتصريحات ترامب العنصرية ضد المكسيكيين والمسلمين والسود والنساء كانت كافية لإعلان جماعات يمينية متطرفة دعمها له، على الرغم من أن هذه التيارات لا تدعم مرشحي الانتخابات الأميركية عادة، لاحتجاجها ضد النظام نفسه، وسياسييه، وإعلامه.
يُعتبر "اليمين البديل" في الولايات المتحدة تياراً يضم أطيافاً فكرية وسياسية مختلفة، يُعرف أحياناً بـ"اليمين الجديد" أو "اليمين المنشق"، ويتبنى أفكاراً أساسية تتمحور حول "مركزية العِرق الأبيض" وأنه متفوق على بقية الأعراق، ويطرح قيام كيانات سياسية على أسس عرقية بديلاً عن نموذج المساواة والتعددية أو نموذج "الديمقراطية الليبرالية" السائد اليوم في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية. ويرى هذا التيار في التجربة الصهيونية نموذجاً يحتذى في التعامل مع "العرق اليهودي"، وإن كان لا يخفي عداءه للسامية، لكنه لا يمانع في طرح فكرة "دول لكل عرق"، وإن اعتقد أن العِرق الأبيض هو الأسمى والأكثر تفوقاً.
وينتقد اليمين البديل، المحافظين التقليديين، باعتبارهم فرطوا في حماية هوية الأميركيين البيض. ويرى أن مشكلة هذا اليمين الأساسية أن أتباعه تخلوا عن أهم سمات "الهوية البيضاء" باعتبارها أيديولوجيا تقوم على تفوّق البيض العرقي، والعداء للسامية، ورفض فكرة المساواة واستبدالها بفكرة التراتب الهرمي للبشر على أساس عرقي.
يسقط من قاموس "الوطنيين البيض"، كما يسمون أنفسهم، أي شيء يتعلق بـ"الاستعمار" و"مركزية الرجل الأبيض"، ويرون أن هذه المركزية "حقيقة بيولوجية" و"إرث" يجب أن يرسخ، لا أن يُنظر إليه من خلال "عقدة ذنب" كما يحدث الآن. ويحاول بعض المنتمين إلى هذا التيار أحياناً استبدال الحديث عن "عرق أبيض" بالتأكيد على "ثقافة للبيض" أو "حضارة غربية"، لمجاراة الخطاب الدارج في الإعلام الأميركي، لكن هذا نادر الحدوث، إذ يغلب على منظّري هذا التيار، مثل مايكل ماكغريغر وريتشارد سبنسر ووليام جوهانسون، أن يتحدثوا عن هوية دينية/عرقية تُزاوج بين المسيحية والعرق الأبيض، وترى في نماذج التعددية العرقية والمساواة تهديداً مباشراً يؤدي إلى "انهيار الحضارة الغربية".
يرى اليمين البديل في "مجاملات" المحافظين التقليديين للتيار السياسي التقليدي العام "تدميراً ذاتياً" لهوية البيض. بل يرونهم يرتكبون "مذابح" بحق أنفسهم، من خلال تبنّي الديمقراطية والتعددية الثقافية والمساواة بين البشر.

شعارات نازية
يُعتبر ريتشارد سبنسر واحداً من أهم قيادات تيار "اليمين البديل" الأميركي. ويدير "معهد السياسة الوطنية" (National Policy Institute)، والذي هو بمثابة مركز أبحاث يتبنى رؤى اليمين البديل في تفوق العرق الأبيض على بقية الأعراق. كما يدير سبنسر "منتدى واشنطن للناشرين" (Washington Summit Publishers) كذراعٍ إعلامية للمركز أطلق من خلاله مشاريع إعلامية عدة تتبنى الرؤية الفكرية للتيار. ويُعتبر موقع (Radix Journal) أحد أهم المواقع الإعلامية التي تعكس بشكل مباشر وواضح أفكار اليمين البديل الأميركي منذ انطلاقه في 2012.
وتم تداول اسم سبنسر أخيراً بعد أن قام موقع "تويتر" بتعليق حسابه في 15 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بسبب تعليقاته العنصرية ضد السود والمهاجرين، إضافة إلى رفعه شعارات نازية احتفالاً بفوز ترامب بالانتخابات كما ظهر في فيديو متداول، لكن "تويتر" عاد وسمح لسبنسر باستخدام حسابه من جديد، منتصف ديسمبر/كانون الأول الحالي.
يلخص سبنسر وجهة نظر اليمين البديل الأميركي بقوله: "نحن نعتقد أن اختلاف الأعراق حقيقة بيولوجية، لها تأثيرات اجتماعية وثقافية وتاريخية كبرى". ويتحدث عن "كراهية الرجل الأبيض" و"ذنب الرجل الأبيض"، باعتبارها عقدة تجعل الآخرين يكرهون البيض وعرقهم، قائلاً: "فَقَد الرجل الأبيض شرعيته بسبب عقدة الذنب التي تجعل العرق الأبيض وعنصرية البيض مسؤولين بشكل استثنائي عن الظلم والمعاناة في العالم... وأن القوة البيضاء ووعي البيض شرير وغير أخلاقي بالضرورة".
ويضع سبنسر اليساريين والاشتراكيين والشيوعيين على رأس قائمة الأعداء المضادين لرؤيته العرقية، باعتبار رؤيتهم للعدل تقوم على انتقاد الرجل الأبيض. ويرى أن هذه الرؤية منتشرة ودارجة للحد الذي جعله يؤكد أن المتبنّين لرؤية تضاد العرق الأبيض يشكلون "أغلبية البشر الذين يعيشون في الدول الصناعية" أي دولاً ذات أغلبية بيضاء أيضاً.
يرى سبنسر أن البيض هم الوحيدون القادرون على "ترسيخ الحضارة الغربية" التي يراها مهددة بسبب الهجرة وزيادة المنحدرين من أعراق أخرى داخلها. ويعتبر أن الحل ببساطة عن طريق "ترحيل" المنتمين إلى عرقيات أخرى، مكسيكيين وسود، إلى "أراضيهم". وبسبب هذه الرؤية العنصرية التي يتبناها سبنسر، مُنع من دخول الكثير من الدول الأوروبية، التي تجرم العنصرية والأفكار التي توضع في إطار "النازية الجديدة" الممنوعة قانوناً في الكثير من دول أوروبا الغربية.

دولة للبيض
نشر موقع (radix)، في فبراير/شباط 2014، مقالة بعنوان "نحن هوياتيون" أو (We Are Identitarians) لمايكل ماكغريغر، يوضح فيها رؤية اليمين البديل لهوية البيض والنظرة إليها في الولايات المتحدة والعالم. ينظر ماكغريغر لـ"هوية البيض" كأيديولوجيا، ويؤكد أن "التسلسل الهرمي" فكرة أساسية بديلة عن المساواة والتعددية الثقافية. وتقوم فكرة "التسلسل الهرمي" على حقيقة أن الشعوب تتفاوت "عرقياً وثقافياً" وليست متساوية، ويقع "البيض" على رأس هذا التسلسل الهرمي الأمر الذي يجب أن ينعكس على "الحقوق" التي يتمتع بها البشر.

يدعو الكاتب إلى قيام دولة "عرقية" للبيض، يبدأ تحقيقها بتقوية مجتمعات البيض في أميركا الشمالية. ويعتبر أن الصهيونية تقترب من النجاح في هذه المهمة، لحفظ العرق اليهودي في إسرائيل، وأن على البيض محاكاة ما يفعله اليهود اليوم. وهنا يستشهد بالصهاينة كمثال يجب اتباعه، على الرغم من أن اليمينيين الأميركيين معادون للسامية، ويرون أن "اليهود" يقفون وراء الكثير من الأفكار التي تنزع من البيض مركزيتهم في العالم، وتلصق بهم "عقدة الذنب"، باعتبار أن "تناول هوية البيض هي المحرم الأكبر في العالم اليوم" بحسب الكاتب.
يتساءل ماكغريغر عن سبب اعتبار الحديث عن هوية البيض من "التابوهات" وأنهم مجبرون على دفع ثمن جرائم ارتُكبت في الماضي، فيجيب بأن "النظام يخاف من هوية البيض أكثر من أي فكرة أخرى"، لأن البيض ببساطة هم من "أبدع النظام... وتقوده قيمهم".
كما يرى أن "النظام" في أميركا وأوروبا، قام بفرض التعددية الثقافية والعالمية والمساواة والفردانية لغاية واحدة هي "استعباد البيض" الذين يراهم "عبيداً للنظام" الذي يقيدهم. لذا يدعو إلى الانقلاب على كل هذه القيم، لإعادة سيادة الرجل الأبيض من جديد، تلك التي يراها مهددة بالقيم الليبرالية. ويعتبر أن على البيض القتال من أجل هويتهم، وأن مصيرهم الانهيار إذا لم يصارعوا بنية النظام: "هذه البنية تقودنا إلى الانحدار، وتزييف قيمنا، وستدمرنا في النهاية إذا لم نقم بتغيير راديكالي".
ويؤكد ماكغريغر أهمية اعتبار الهوية البيضاء "أيديولوجيا" هدفها الأساسي "حفظ هويتنا، وإرثنا الثقافي والجيني الذي يجعلنا على ما نحن عليه". وعند الحديث عن إرث الرجل الأبيض، يؤكد الكاتب أن "تراثنا يتضمن ملاحم هوميروس، والملاحم الأيسلندية، وموسيقى بتهوفن، وتعود جذورنا إلى أسبرطة أيام مجد روما، وغابات شمال أوروبا البكر". ويرى أن هناك سمات بيولوجية وثقافية للبيض، قائلاً: "سماتنا مثل عيوننا الزرق وموسيقانا الكلاسيكية تستحق الاحتفاظ بها كمميز لعرقنا"، ويضيف: "يجب تأكيد انحدار البيض من عرق مميز، وأن هناك الكثير من الاختلافات بيننا وبين بقية الأعراق في العالم".



غزل متبادل مع ترامب

أعلن منظّر "الوطنيون البيض" وأحد أهم قيادات "حزب الحرية الأميركي"، وليام جوهانسون، دعم ترامب. بل إن جوهانسن رشح نفسه ليكون مندوباً لترامب عن ولاية كاليفورنيا، الأمر الذي وافقت عليه حملة ترامب، قبل أن يستقيل جوهانسون وتسحب حملة ترامب ترشيحه، بعد انتقادات وجُهت للرئيس المنتخب بسبب عنصرية جوهانسون. واعتبرت الحملة أن اختيار

جوهانسون لتمثيل ترامب كان نتيجة لـ"خطأ في البيانات".
جوهانسون الذي كاد أن يكون مندوباً عن كاليفورنيا لترامب في الانتخابات، يُعتبر واحداً من أبرز منظّري "الوطنيون البيض" والذي يحاول تركيز خطابه على "تفوّق العرق الأبيض" و"النقاء العرقي ككل"، وفق نظرية أنه "لكل عرقية إرث وحضارة تعتز بها ومن حقها المحافظة عليها".
يرى جوهانسون أن من أسباب انحلال حضارة البيض الغربية في أميركا وأوروبا "تدفق المهاجرين من أعراق مختلفة"، معتبراً أن الأوروبيين البيض يتم "استبدالهم بمهاجرين من أفريقيا" المصير الذي يهدد الأميركيين ويؤدي إلى انهيار وموت حضارة الغرب. فكرته ببساطة قائمة على أهمية النقاء العرقي، إذ يقول: "علينا أن نحفل بإرثنا وحضارتنا". واقترح في 1985 أن يتم "ترحيل" كل غير البيض من الولايات المتحدة، وتحديداً الأميركيين السود، وأن يتم تعويضهم "ليعيشوا حياة مزدهرة في أرضهم" أي أفريقيا.
وكان جوهانسون قد اعتبر أن ترامب "صفقة رابحة" لأنه ببساطة "لن يحكم بناء على استطلاعات الرأي، بل بناء على ما يدور في ذهنه"، لافتاً إلى أن ترامب أقرب لفكرته، وإن لم يعتبره مؤمناً بأهمية النقاء العرقي للبيض. جاء ترامب ليبعث الكثير من الأمل لجوهانسون، والذي تحدث مرة لموقع إلكتروني قائلاً: "لسنوات عدة، عندما أقول هذه الأشياء (عن التفوّق العرقي للبيض) كان البيض ينعتوني بداعية الكراهية، والنازي، ويشبهوني بهتلر، اليوم يأتون إليّ ويقولون إنني أشبه دونالد ترامب".

اكتمال الصفقة مع بانون
عيّن ترامب، الصحافي والناشر اليميني المتطرف، وأحد أبرز دعاة "اليمين البديل" من خلال موقعه الإلكتروني "بريتبارت" (Breitbart)، ستيف بانون، رئيساً لحملته الانتخابية في أغسطس/آب الماضي، ما اعتُبر وقتها مغازلة علنية وحاسمة من ترامب لليمين البديل مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، لا سيما أن تيارات اليمين البديل لا تتبنى عادة أيا من المرشحين الجمهوريين، حتى المحافظين منهم، باعتبارهم محافظين مزيفين لا يدافعون عن مصالح البيض.
لكن المفاجأة لم تكن في دعم اليمين البديل لترامب، وتعيين أحد رموزه رئيساً لحملته الانتخابية، وإنما في تعيين بانون نفسه كبير المستشارين الاستراتيجيين في البيت الأبيض بعد فوز ترامب بالرئاسة، الذي وفى بوعوده السابقة بجعل بانون مقرباً من مراكز صناعة القرار في واشنطن. ويتبنى بانون ويروج من خلال موقعه الإلكتروني أفكاراً تتعلق بمعاداة السامية، ورفض "الديمقراطية الليبرالية" التي تحفل بالتعددية الثقافية والهجرة.
عمل بانون في البحرية الأميركية في الفترة ما بين 1970 و1980، كما نال الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة هارفرد، إضافة إلى الماجستير في دراسات الأمن الوطني من جامعة جورج تاون. يُعادي بانون بشكل راسخ المؤسسات الحزبية التقليدية الأميركية أو ما تعرف بـ"الاستبلشمنت"، باعتبارها غير قادرة على إصلاح الأوضاع الاقتصادية في الولايات المتحدة، خصوصاً زيادة الإنفاق على "دولة الرفاه" والتي أدت إلى استفادة كبار رجال الأعمال والفقراء، وتجاهلت الطبقة الوسطى التي تعاني الظلم والخشية من دمار مستقبل أبنائها، بحسب بانون.
انعكست رؤية بانون المرتكزة على "المؤامرات الخفية" التي تحكم العالم والنفس الشعبوي، بصورة واضحة على الخط العام لموقعه الإلكتروني، كما انعكست بلا شك على حملة ترامب الانتخابية، القائمة على مواجهة " الاستبلشمنت".

لكن الأمر يتعدى الاقتصاد بحسب رؤية بانون. يقول: "عندما يكون ثلثا أو ثلاثة أرباع المدراء التنفيذيين في سليكون فالي من جنوب آسيا أو آسيا... أعتقد أن الموضوع يتجاوز الاقتصاد، نحن مجتمع متحضر"، في تعبير عن رفضه العنصري لما يعتبره هيمنة آسيوية على القطاع التقني في الولايات المتحدة ورؤيته لتهميش "البيض" في سليكون فالي، الأمر غير الصحيح بحسب إحصائيات تُقدّر العاملين في سليكون فالي من الآسيويين والأميركيين الآسيويين بما لا يتجاوز 27 في المائة، ونسب أقل بكثير في الإدارات العليا.
الحديث عن صعود اليمين البديل في الولايات المتحدة، لا يعني أن ترامب يتبنى الهوية البيضاء أيديولوجياً، بل إن تاريخ ترامب وتحوّلاته بين الديمقراطيين والجمهوريين وخطاباته تجعله أقرب للشعبوية والعنصرية غير المؤدلجة، منه إلى العنصرية اليمينية المتطرفة التي تؤمن بتفوق البيض عرقياً كما تتمثل في اليمين الأميركي البديل. لكن المقلق هو اقتراب هذا التيار من مركز القرار في واشنطن، كما حدث مع بانون، وتوسُّع قاعدة مؤيديه توازياً مع صعود ترامب الشعبوي، ما يمهد الطريق أمام اليمين المنعزل عن التيار السياسي العام (Mainstream) في واشنطن للاستيلاء على حيز إعلامي وسياسي أكبر.