وضع إعلان براك، في تداعياته الأولية والفورية، حداً لمناورة جديدة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، حاول من خلالها عبر رئيس الكنيست يولي إدلشتاين، إعادة العجلة إلى الوراء وإلغاء قرار حل الكنيست، أملاً بتمكنه هذه المرة من تشكيل حكومة جديدة مع تحالف كاحول لفان بقيادة الجنرال بني غانتس. لكن في الوقت نفسه، وبالحدة ذاتها، أبرز خطاب براك ضعف الجنرال غانتس، وفشله في أن يكون بديلاً لنتنياهو، عندما طغى إعلان براك بأنه لا بديل عن الإطاحة بنتنياهو وائتلافه المتطرف لإنقاذ إسرائيل، على الخطاب المتلعثم والمتردد للجنرال بني غانتس، الذي لا يزال يبدي استعداداً لحكومة وحدة مع الليكود ولكن بدون نتنياهو نفسه.
لم تقف التداعيات الفورية لإعلان براك عند حد إرباك غانتس، بل تعدته على الفور إلى إحداث تغيير مرتقب، انعكس بداية باستطلاعات الرأي، على الخريطة الحزبية لإسرائيل، لجهة فقدان معسكر اليمين بقيادة نتنياهو أغلبية المقاعد في الكنيست، وتراجع هذا المعسكر بحسب أول استطلاع نشر بعد إعلان براك، إلى 59 عضواً لليمين مقابل 61 عضواً للوسط واليسار. زيادة على ذلك بين الاستطلاع أن حزب براك، حتى قبل أن يعلن اسمه ومن هم أقطابه، يحصل بداية على 6 مقاعد، فيما يخسر الحزبان الكبيران حالياً، الليكود بقيادة نتنياهو وكاحول لفان بقيادة الجنرال بني غانتس، 3 مقاعد لكل منهما ويتراجعان إلى 32 مقعداً.
وبينت الردود الأولية مدى حالة الإرباك، ففيما اكتفى حزب غانتس بالحديث عن تجربة براك الغنية وخطأ تصور براك لفرص الفوز بتركيزه (أي براك) على الحجم الإجمالي للمعسكر المضاد لنتنياهو، اعتبر حزب غانتس أن عدد مقاعد الحزب الأكبر مهم لجهة ضمان تكليف رئيس الدولة للحزب صاحب عدد المقاعد الأكبر بتشكيل الحكومة القادمة، علماً أن القانون يلزم رئيس الدولة بتكليف زعيم الحزب، أو عضو الكنيست الذي يملك الفرصة الأكبر والعدد الأكبر من أعضاء الكنيست المؤيدين لتشكيله الحكومة.
وبدا واضحاً في تعليقات الصحافيين الإسرائيليين والمراقبين في الحلبة السياسية الإسرائيلية، أن عودة براك لم تكن لتتم لولا رغبة الأخير الجامحة بالعودة إلى ديوان رئاسة الحكومة، لأسباب ترتبط بمطامعه الشخصية أكثر مما هي تتعلق بإنقاذ إسرائيل الصهيونية و"العاقلة" من براثن فساد نتنياهو وتحالفه المتطرف. لكن ذلك لم يخف الاحتفاء ببراك من صحافيين محسوبين على اليسار والوسط ووصفه بأنه يبعث أملاً ويدب الحياة في المعركة الانتخابية النائمة، خصوصاً بقدرته المفترضة، بحسب ما بين الاستطلاع للقناة 13، على نقل أصوات من معسكر اليمين لصالح معسكر الوسط واليسار.
عودة براك، تمهد أيضاً لاحتمال وقف عملية موت حزب العمل كلياً، وهو الحزب الذي تراجع في انتخابات التاسع من نيسان/ إبريل من 24 مقعداً إلى ستة مقاعد جعلت كثر ينعونه باعتباره أنهى حياته ودوره التاريخي. وتبين أن براك يعتزم بناء جسم سياسي تحالفي يضم في كتلة واحدة أيضاً حزب ميرتس اليساري، (وهو ما بات ممكناً بعد تغلب نيتسان هورفيتس، يوم الخميس الماضي، على زعيمة الحزب الحالية تمار زاندبيرغ) وحزب العمل، مع فحص فرص بناء تحالف مع حزب الجنرالات كاحول لفان.
وفي حال تمكن براك فعلاً من بناء جسم مشترك مع حزبي العمل وميرتس، دون كاحول لفان، فإن من شأن ذلك أن يوصله إلى إنجاز انتخابي قد يعيد للجسم المشترك أكثر من 10 مقاعد صوّت أصحابها في انتخابات نيسان لتحالف الجنرالات بقيادة غانتس. هذا يعني أن من شأن هذا التحالف أن يلغي كون حزب غانتس الحزب الثاني الموازي في قوته لليكود، وأن يرسم بالتالي خريطة حزبية مكونة في اليمين من الليكود وباقي أحزاب اليمين المؤيدة له (بدون حزب يسرائيل بيتينو بقيادة أفيغدور ليبرمان)، مقابل حزبين متوسطي الحجم في ما يسمى بالوسط واليسار لا تتعدى قوتهما النيابية 45 مقعداً، لكنهما قادران على انتزاع فرصة تكليف أكبرهما بتشكيل الحكومة المقبلة، وأن يخلق عملياً قوة ثالثة في إسرائيل، أملا في التخلص من حكم نتنياهو، عبر إغفال البرنامج السياسي والموضوع الفلسطيني والتركيز على شعار: فقط ليس نتنياهو.
لم تأت عودة براك "المفاجئة" قياساً بتردده السابق، من فراغ، بل هي ربما بفعل نتائج الانتخابات الأخيرة، وبالأساس عدم قدرة تحالف الجنرال غانتس على تحقيق انتصار يمكنه من أن يكون بديلاً لنتنياهو، فقط بفعل افتقاره للحد المطلوب للتكليف بتشكيل الحكومة وهو تأييد 61 عضواً، من جهة، وفقدان نتنياهو للسيطرة على زمام مناورة قانون حل الكنيست، التي سعى من خلالها إلى الضغط على شركائه "الطبيعيين" وخاصة الحريديم وحزب أفيغدور ليبرمان لتقديم تنازلات لتشكيل الحكومة، بالركون إلى أنه لا خيار آخر لهم، من جهة ثانية.
فقد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بفعل غروره، زمام السيطرة بعدما انقلب ليبرمان على نتنياهو وترشيحه له لتشكيل الحكومة تحت ذريعة رفض الانضمام لحكومة يتحكم بها الحريديم الذين سعوا، بحسب زعم ليبرمان، خلال الساعات التي سبقت حل الكنيست ليل التاسع والعشرين من مايو، لإقامة حكومة شريعة يهودية، مظهراً نفسه حامياً لليبرالية والعلمانية في إسرائيل. وشكل هذا أول مفاجأة دراماتيكية في صفوف اليمين الإسرائيلي، وأول مؤشر على أن نتنياهو فقد "الهالة والهيبة" اللتين تجعلانه المرشح الوحيد القادر على تشكيل حكومة في إسرائيل.
الطلاق البائن، إذا جاز التعبير، بين ليبرمان الذي خرج من الانتخابات بخمسة مقاعد كانت كافية لسد الطريق أمام حكومة نتنياهو الخامسة، وبين الأخير، عكست من وجهة نظر براك تغييراً مهماً في الوضع الحزبي والخريطة الحزبية لإسرائيل، يعني كسر "الأغلبية" المضمونة مسبقا لنتنياهو في تشكيل حكومة مقبلة، بما يفتح الطريق، أو على الأقل ثغرة يمكن من خلالها محاولة بناء ائتلاف حكومي مقبل بديل لنتنياهو، سواء كان براك رئيس الحكومة فيه (إذا حاز الجسم الذي يعتزم تشكيله على عدد أكبر من تحالف كاحول لفان)، أو وزيراً للدفاع، خصوصاً أن براك سبق له أن تشارك وليبرمان مقاعد في حكومة نتنياهو الثانية عام 2009.
يبني براك حساباته أيضاً على رصيده العسكري وكونه الوحيد من معسكر اليسار الذي تغلب في انتخابات مباشرة عام 1999 على نتنياهو، من جهة، وعلى كونه قادراً على إعادة أو على الأقل تشجيع شرائح في الوسط واليسار، تمتنع في العقد الأخير عن التصويت، بفعل إحباط من القدرة على التغيير، وتمثل عودة براك أملا في نظرها.
وبالرغم من كل هذه العوامل التي تشي بالتغييرات التي يمكن لحزب براك أن يحدثها في الخريطة الحزبية، إلا أن العائق الرئيسي سيكون أمام براك، تماماً كما كان أمام الجنرال بني غانتس، خصوصاً في ظل حديث الأحزاب العربية عن العودة لتشكيل القائمة المشتركة وتوقعات حصولها على 12 مقعداً، هو من أين سيحصل براك على عدد مقاعد يكمل له النصاب المطلوب قانونياً للحصول على تكليف من رئيس الدولة، والمتمثل في دعم وترشيح 61 عضو كنيست له، ما دام كل عدد المقاعد الذي سيحصل عليه المعسكر المناهض لنتنياهو لا يصل إلى 61 عضواً بدون نواب الأحزاب العربية في الكنيست.