ولا يُعد تقسيم فصائل "الحشد"، وتمييزها بين معسكرين، أمراً جديداً، على الأقل داخل الساحة العراقية، وخصوصاً للمتابعين، تحديداً لجهة كون تلك المرتبطة بالنجف أكثر التزاماً بمقررات الحكومة العراقية، وتوصيات المرجعية الدينية، حتى بات السكان المحليون في بعض المناطق يفضلونها على سواها من فصائل "الحشد"، كونها برأيهم أكثر تعاوناً وأفضل تعاملاً. وتحسب مثلاً الفصائل الموجودة في مدينة سامراء (محافظة صلاح الدين)، أو شمال بغداد وشرق الفلوجة، على هذا المعسكر، عكس الفصائل الأخرى المعروفة باسم "الولائية"، المعروفة بسجلها الطويل في الانتهاكات بمدن شمال وغرب البلاد، والمتهمة بعمليات خطف وإعدامات ميدانية على أسس مذهبية طائفية وحرق منازل واستيلاء على ممتلكات.
لكن الخلافات بين فصائل "الحشد" التي صارت أكثر شيوعاً منذ اغتيال الولايات المتحدة سليماني وأبو مهدي المهندس (الذي يعد القائد الفعلي لفصائل "الحشد")، في غارة جوية قرب مطار بغداد مطلع العام الحالي، تطورت كثيراً خلال الأيام الأخيرة. وحدث ذلك بعد تسمية فصائل عدة مقربة من إيران لزعيم كتائب "حزب الله" العراقية، أبو فدك (أبو عزيز المحمداوي)، الملقب بالخال، خلفاً للمهندس، وهو ما نفاه رئيس هيئة "الحشد" فالح الفياض جملة وتفصيلاً. وأكد الفياض في تصريح عقب إعلان بعض الفصائل عن تسمية أبو فدك، أنه لا وجود لجهة تحمل اسم "شورى الحشد"، وأن من يتحدث عن وجودها "مخطئ أو ليست لديه معلومات كافية"، أو ربما لديه دافع آخر. وأوضح الفياض أن تعيينات مناصب الهيئة "تتم عبر سياقات الدولة"، مضيفاً أن "السيد أبو فدك شخصية محترمة، ومرشح للمنصب، لكن لم يصدر أي أمر ديواني بتعيينه رئيساً لأركان الحشد".
وتقود الفصائل العراقية المرتبطة بالنجف وكربلاء، أو ما تعرف بـ"حشد العتبات"، رفض تعيين أبو فدك خلفاً للمهندس. و"حشد العتبات" هو أحد الأسماء التي باتت تطلق على الفصائل التي تعتبر تابعة لهاتين المحافظتين العراقيتين، في دلالة على ارتباطها بالعتبات المقدسة (لدى الشيعة) في مدينتي النجف وكربلاء. وسبق لأحد قادة هذه الفصائل، وهو ميثم الزيدي، قائد فرقة العباس القتالية، وصاحبة الثقل الأكبر في معارك محور مخمور وحوران، شمالي العراق، خلال معارك تحريرها من تنظيم "داعش"، أن اتهم في وقت سابق قيادة "الحشد الشعبي" بالتمييز بين الفصائل المسلحة في ما يتعلق بالمخصصات المالية والأمور اللوجستية الأخرى.
وينضوي في الفصائل التابعة للنجف وكربلاء أكثر من 40 ألف مقاتل، عدا عن فصيل "سرايا السلام"، التابع لزعيم "التيار الصدري"، مقتدى الصدر، الذي يضع نفسه خارج التصنيفين الحاليين لفصائل "الحشد". وأبرز هذه الفصائل: فرقة العباس القتالية التي تضم سبعة آلاف مقاتل، فرقة الإمام علي (سبعة آلاف مقاتل أيضاً)، لواء علي الأكبر (3 آلاف مقاتل)، لواء أنصار المرجعية (3 آلاف مقاتل)، وفصائل أخرى مقرها النجف وكربلاء، وينضوي في إطارها نحو 21 ألف عنصر، وتسمى فصائل الإسناد والدعم اللوجستي.
وأظهرت أخيراً صور نشرتها مواقع إخبارية مقربة من المرجعية الدينية في النجف، لقاءً جمع، يوم الأربعاء الماضي، زعماء أبرز أربعة فصائل مسلّحة مرتبطة بالنجف وكربلاء، وتعتبر الأقرب للجيش العراقي والأكثر التزاماً بقرارات الحكومة، بوزير الدفاع نجاح الشمري. وبحسب هذه الصور، يتبين حضور زعيم لواء علي الأكبر، الشيخ علي الحمداني، وقائد فرقة العباس، الشيخ ميثم الزيدي، وزعيم لواء أنصار المرجعية، حميد الياسري، فضلاً عن قائد فرقة الإمام علي، طاهر الخاقاني. وإثر نشر الصور، تضاربت الأنباء حول ما إذا كانت فصائل مرجعية النجف ستلتحق بالقوات النظامية التابعة للدولة العراقية. وعلى الرغم من نفي المتحدث العسكري باسم الحكومة العراقية، اللواء الركن عبد الكريم خلف، انسحاب أربعة ألوية من هيئة "الحشد الشعبي" وانضمامها إلى وزارة الدفاع، مؤكداً أن لا علاقة تنظيمية وإدارية بين "الحشد" ووزارة الدفاع، إلا أن مصادر أخرى تحدثت عن عكس ذلك، وأن هذه الفصائل بصدد خلق مساحةٍ مميزة لها، حتى لا تحترق بأي معادلة دولية أو إقليمية تحاول الفصائل الأخرى المرتبطة بإيران زجّ العراق فيها.
وكان البرلمان العراقي قد أقر في العام 2016 ما يعرف باسم "قانون الحشد الشعبي"، الذي اعتبر "الحشد" مؤسسة عسكرية مرتبطة بالقائد العام للقوات المسلحة وتتلقى أوامرها منه، لكن أغلب فصائل "الحشد" لم تلتزم بالتوجيهات الحكومية، وارتكبت انتهاكات كثيرة في المحافظات التي شهدت معارك ضد "داعش"، كما أنها أظهرت ولاءها لإيران بشكل معلن، لا سيما في ما يتعلق بتداعيات قصفها للمواقع العسكرية الأميركية في العراق.
لكن مسؤولاً عراقياً في بغداد تحدث بشكل مقتضب لـ"العربي الجديد" عن خلافات "الحشد"، واضعاً إياها في إطار مساعٍ تقودها أطراف عراقية، وتهدف إلى "عرقنة قرارات الحشد، ومنع تحوله إلى أداة بيد الخارج"، بحسب تعبيره، في إشارة إلى إيران.
وأوضح المصدر أن "هناك رأياً عراقياً عربياً، شيعياً تحديداً، يرى بوجوب ألا يكون الحشد أداةً في يد أحد، فالحشد تأسس من متطوعين، وقدّم آلاف القتلى والجرحى خلال المعارك التي دارت في البلاد (ضد "داعش")، ولا يمكن المتاجرة بهذه التضحيات"، معرباً عن أسفه لـ"رغبة البعض بجرّ الحشد إلى التسييس، والمتاجرة به، وإدخال العراق في مواجهة غير متكافئة مع الولايات المتحدة". ولهذه الأسباب، أضاف المصدر، فإن "النجف وقيادات سياسية عراقية، لا تريد للحشد غير أن يكون تجربة عراقية نتجت عن وضع طارئ، وهو احتلال داعش لمدن عدة في شمال وغرب البلاد"، مؤكداً، بحسب رأيه، أن الخلافات الحالية "ستحسم لصالح الفصائل العراقية، والتي سيكشف تنفيذ تهديدها وانسحابها فعلاً من الحشد الغطاء عن هوية وتوجهات كثير من الفصائل التي يقاتل بعضها في سورية، فيما تستلم رواتبها من العراق، وهو ما لا تريده تلك الفصائل (فصائل النجف والكربلاء)".
في المقابل، تحدثت مصادر مقربة من هيئة "الحشد الشعبي"، لـ"العربي الجديد"، عن أن "الضربات الأخيرة التي استهدفت قوات التحالف الدولي (بقيادة الولايات المتحدة) في معسكر التاجي، شمالي بغداد، هي التي جددت الخلاف بين الفصائل العراقية، لا سيما أن قادة الفصائل التابعة للنجف غير موافقة على رشقات الكاتيوشا التي تستهدف المعسكرات والمصالح الأميركية، حتى لا تحسب عليها ولا تتعرض بدورها لهجمات أميركية".
وبينت هذه المصادر أن "الفصائل الأربعة التابعة للعتبات الدينية في العراق، وحتى تلك التي تشكلت ضمن ما يعرف بحشد وزارة الدفاع، أو حشد المناطق من المتطوعين العفويين، لا تريد أن تزج في صراع إقليمي، بل تريد النأي بنفسها، وترى ضرورة أن يبقى الحشد تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة" (رئيس الحكومة).
وكشفت هذه المصادر المقربة من هيئة "الحشد" أن أطرافاً في بغداد أبلغت فالح الفياض بأن اختيار أبو فدك ليحل مكان المهندس كقائد ميداني للفصائل هو اقتراح لزعيم "حزب الله" اللبناني حسن نصر الله، وعرضه على القائد الجديد لـ"فيلق القدس" الإيراني الجنرال إسماعيل قاآني. وبحسب المصادر، فإن هذا الأمر أزعج مرجعية النجف، وكذلك مقتدى الصدر وفصائل مسلحة أخرى، تجد أنها ليست بوارد الانصياع لوصاية أحد.
وأكدت المصادر أن وزير الدفاع نجاح الشمري أبلغ قادة الفصائل في "الحشد" التي التقاها أخيراً، بأنه ليس بالإمكان دمجهم في إطار وزارة الدفاع، كون "الحشد" لا يمتلك درجات وظيفية، وأيضاً فإن هذه الخطوة تتعارض مع قانون الوزارة في ما يتعلق يشروط العمر والرتبة والتدريب والتحصيل الدراسي والراتب والتصنيف القتالي واللوجستي، فضلاً عن تأثير أي دمج من هذا النوع على التوازنات الطائفية، أي بالنسبة لتأثيرها على المكونات السنية والكردية والأقليات في الجيش العراقي.
نائب في البرلمان العراقي، ضمن أعضاء تحالف "سائرون" التابع للصدر، أكد من جهته، أن خلاف الفصائل يتعدى كونه عسكرياً، أو حتى تنظيماً، بل هو فكري، موضحاً أن "هناك فصائل مسلحة مرتبطة بإيران، مثل حزب الله والنجباء وغيرها، تحاول فرض ولاية الفقيه، ومبدأ ضرورة تبعية العراق لإيران، وفرض نظرية المصير الواحد".
ولفت النائب الذي رفض الكشف عن اسمه، إلى أن الفصائل في "الحشد" المرتبطة بالنجف وكربلاء ليست قليلة عددياً، وبالتالي فإنها حتى ولو لم تنفذ خطوة انتقالها إلى وزارة الدفاع، فقد بعثت برسالة واضحة إلى قادة الفصائل الموالية لإيران بأنها قادرة على الرحيل وترك آثار كبيرة داخل الهيئة، بل قد تشكل أي خطوة من هذا النوع بداية مسار حلّ الهيئة بالكامل، ودمج جميع عناصرها في صفوف القوات النظامية.
وربط الخبير بالشأن الأمني العراقي سرمد البياتي، "أبرز المشاكل بين فصائل الحشد"، بالقصف الذي نفذته الطائرات الأميركية أخيراً على مقرات تابعة لـ"الحشد"، ومنها ما استهدف مطار كربلاء، إذ "إنها لا تريد أن تكون ضمن خطة إقليمية". وأوضح المصدر أن "وصول القصف إلى كربلاء، هو الذي حرّك فصائل العتبات الدينية لاتخاذ قرارات جديدة بشأن الانتماء للحشد، علماً أن غالبية قادة الفصائل أعلنوا أنهم لم يوافقوا على ضرب معسكر التاجي وتهديد قوات التحالف".