ويتعلّق الأمر بأكثر مواد مشروع القانون المالي للعام المقبل إثارةً للجدل، منذ أن أحالته الحكومة على البرلمان أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وتنصّ المادة 9 من هذا المشروع على حظر إجراء الحجز على ممتلكات الدولة وأموالها، والذي يتمّ القيام به حالياً في حال امتناع إحدى المؤسسات الرسمية عن دفع الغرامات التي صدرت بشأنها أحكام قضائية نهائية، لتعويض أشخاص ذاتيين أو معنويين عن أضرارٍ تسببت لهم فيها الدولة، أو ديونٍ مستحقة لم يتم تسديدها.
وفي أبرز تعبيرٍ عن حجم الغضب، نظّمت جمعية هيئات المحامين في المغرب، تظاهرةً، أول من أمس الأربعاء، أمام مقرّ البرلمان، معتبرةً في بيانٍ أن "منع إخضاع أموال الدولة والإدارات العمومية والجماعات الترابية للحجز تنفيذاً لأحكام قضائية قابلة للتنفيذ، هو إنكار للعدالة وتعطيل لوظيفة القضاء، وللأمر بالتنفيذ الذي يصدر بأمر من أعلى سلطة في البلاد".
وكانت معظم كتل مجلس النواب قد عبّرت بداية الأمر بشبه إجماع عن رفضها للمادة 9، باعتبارها تعطّل أحكام القضاء، وتمسّ باستقلاليته المنصوص عليها في الدستور المغربي. لكن هذه الكتل، بما فيها تلك المنتمية إلى المعارضة، عادت لتتفق حول حلٍّ وسط، يقضي بمنح الدولة، ممثلةً في الوزارات والجماعات المحلية، مهلة أربع سنوات لدفع التعويضات التي يصدرها القضاء لصالح أفراد أو شركات، قبل أن يصبح الحجز على ممتلكات الدولة من حسابات مصرفية، عقارات، ومنقولات، أمراً ممكناً.
هذا التوافق داخل البرلمان لم يكسره سوى النائب عمر بلافريج، الذي يعتبر واحداً من نائبين إثنين لفدرالية اليسار الموحّد، التي رفضت الانضمام إلى الإجماع حول المادة الذي سعت إليه الحكومة في السلطة التشريعية. بلافريج أعاد تفجير السجال السياسي حول هذه المسألة، عندما قال خلال كلمته الخاصة بتفسير تصويته في جلسة المناقشة العامة التي جرت الخميس الماضي، إنه رفض التصويت لصالح المادة 9، لكونه لم يحصل على صيغتها الجديدة مكتوبة، وإنه "ليس بهيمة" كي يوقّع أو يصوّت على أمرٍ يجهله.
وعلى الرغم من مصادقة لجنة المالية في مجلس النواب بشبه إجماع على المادة 9، والمصادقة على الجزء الأول من مشروع الميزانية التي تضمها، إلا أن استمرار تصاعد الأصوات الرافضة من داخل الهيئات السياسية والحقوقية والأكاديمية، يشير إلى احتمال إعادة النظر في المشروع الحالي. ويأتي ذلك خصوصاً أن مجلس المستشارين، الغرفة الثانية للبرلمان، لم يصادق بعد على مشروع الموازنة، ويمكن لأحزاب المعارضة التي تشكل أكبر كتلة داخله، أن تغيّر حساباتها في حال استمرار تصاعد الاحتجاجات. وقالت مصادر برلمانية خاصة بـ"العربي الجديد"، إن استمرار الاحتجاجات قد يدفع الفرق البرلمانية للأغلبية الحكومية أيضاً إلى مراجعة موقفها في الغرفة الثانية للبرلمان.
عددٌ من الأصوات السياسية من داخل الأحزاب التي صادقت كتلها على المادة 9 في مجلس النواب، واصلت التعبير عن اعتراضها، منها النائبة بكتلة حزب "الأصالة والمعاصرة"، ابتسام العزاوي. وأعربت العزاوي بعد انضمام كتلتها إلى المصوتين لصالح هذه المادة الأسبوع الماضي، عن "أسفها" لذلك، مؤكدة تمسكها بموقفها الرافض لهذه المادة "رفضاً تاماً في صياغتها الأولى، وكذلك في صياغتها المعدلة والمتحايلة على مبدأ المساواة أمام القضاء". وأكدت العزاوي كذلك على رفضها "أي مساسٍ بحقوق الملزمين في استخلاص حقوقهم وفقاً لأحكام قضائية نهائية يجب أن تنفذ".
من جهته، غرّد القيادي في حزب "الحركة الشعبية" المشارك في التحالف الحكومي، عضو مكتبه السياسي، حاتم بكار، بعد تصويت مجلس النواب، قائلاً إن المادة 9 "غير دستورية وغير عاجلة وغير منطقية". واعتبر بكار أنه "وإن كان مفهوماً منع الحجز على مستشفى عمومي أو مدرسة تملكها الدولة نظراً لخدماتها الاجتماعية، فإن المقتضى الجديد الذي تحمله المادة 9 سيؤدي إلى استفحال الوضع الحالي"، الذي قال إنه يتسم بـ"عدم استقرار الأمن القانوني الذي ينعكس على الأمن القضائي للمواطنات والمواطنين". ورأى أن تمرير هذه المادة بمبررات من قبيل عجز الميزانية هو ضربٌ من العبث التشريعي، خاتماً بأن "من لا يفهم هذا الأمر حالياً، سيفهمه جيداً بعد وقت قليل".
من زاوية أكاديمية، تعلو أصوات في المغرب متمتعةً بمصداقية وتأثير كبيرين، محذرة من تداعيات هذه المادة على المبادئ التي ينصّ عليها الدستور المغربي، من قبيل الفصل بين السلطات واستقلال القضاء.
وفي هذا الإطار، رأى الباحث المتخصص في الجوانب القانونية لتدبير مالية الدولة، محمد براو، أن المادة 9 تحتاج إلى إعادة صياغة بعد دراسة متأنية وتشاور واسع، لأن صيغتها الحالية "تشكل انقلاباً على 30 سنة من التجربة الفقهية والقضائية المغربية في المادة الإدارية، والتي كانت مدعاة للفخر الوطني ولا تزال". وأضاف براو أن الأسباب التي يبرر بها المدافعون عن الصيغة الحالية للمادة "غير مقنعة منطقياً، وفاسدة شكلاً ومضموناً".
براو، الذي أصدر كتباً ودراسات عدة في مجال المالية العمومية، شرح أن موقفه هذا لا يعود فقط إلى كون هذه المادة "تقوّض أهم ركن في دولة الحق والقانون، وهو نفاذ الحكم القضائي والمساواة أمام القاعدة القانونية"، بل لأن "إسقاط التجارب الأجنبية بشكل مشوه على الخصوصية المغربية، يدفن أدبيات عدم النقل عن الآخر". ورداً على بعض الأصوات الحكومية التي تدفع بحجة وجود مقتضيات مماثلة في دول أجنبية، أوضح براو أن فرنسا مثلاً عندما لا تطبق الحجز على الأموال العامة، "فإنها سنّت تدابير تشريعية وميزانياتية موازية، لم يلق لها بالاً مشرعو المادة 9، كالمساءلة المالية للممتنع عن التنفيذ والتسجيل الإجباري لمصاريف الأحكام القضائية في ميزانيات الجماعات الترابية". أما تخوفات وزارة المالية من تعطيل بعض المرافق العمومية بسبب الحجز على ممتلكات الدولية، فرأى الباحث المالي أنها قابلة للتسوية من خلال التشاور مع المعنيين"، لاسيما السلطة القضائية "التي يمكنها أن تعمم توجيهاً على القضاة، لتفادي الحجوزات غير المدروسة وغير المحسوبة العواقب على استمرارية المرفق العمومي".
بدوره، رأى أكاديمي مغربي آخر، هو الأستاذ الجامعي المختص في الشأن البرلماني، عمر الشرقاوي، أن المادة 9 ستكون بمثابة "بيت الشيطان"، لافتاً إلى أنها "ستجعل رقاب المواطنين ورجال الأعمال تحت رحمة رؤساء الجماعات ورؤساء الإدارات وكل الآمرين بالصرف، ومن دون شك ستخلق بؤرا كثيرة للفساد وسيتولد من رحمها سماسرة ومبتزون مقابل إدراج تعويضاتك في الاعتمادات". وكتب الشرقاوي، في منشور عبر حسابه على موقع "فيسبوك" مخاطباً المواطنين: "أيها المغاربة ستجدون مسؤولين يطالبونكم بمقابل مادي أو انتخابي للحصول على تعويضاتكم التي حكمت لكم بها المحاكم، وسيساومونكم على حقوقكم، وستُخلق أسواق سوداء ومزادات علنية تحدد فيها مقابل الحصول على تعويضاتكم".