مسألة الاتفاقيتين تبدو عادية، إلا أنها اكتسبت بعداً سياسياً داخل البلاد، عندما وُصفَت الوثيقتان بكونهما "خيانةً للوطن"، بحسب تعبير رئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي، المعادية علناً للثورة التونسية، والأمينة للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. كذلك اعتُبرت الاتفاقيتان بمثابة "اعتداء على أمن تونس الاقتصادي"، من وجهة نظر المحامي عماد بن حليمة، الذي لم يكتفِ بهذا الوصف، بل اتهم حركة "النهضة" بالسعي نحو "إعادة الاحتلال العثماني إلى تونس"، داعياً رئيس الجمهورية قيس سعيّد إلى تفعيل الفصل 80 من الدستور، الذي يقضي بـ"تعليق عمل البرلمان مؤقتاً". هذه الاتهامات أثارت جدلاً في الأوساط السياسية، ما دفع الحكومة إلى تأجيل مناقشة المشروعين إلى موعد لاحق، بعدما جعل البعض من منظمي الحملة يصورون المسألة على أنها لا تتعلق بتوسيع دائرة التعاون الثنائي، وإنما كـ"مخططٍ يمهد لاستعمار جديد".
وعلى الرغم من تشكيل حكومة إلياس الفخفاخ، وانشغالها حالياً في مواجهة وباء كورونا، إلا أن ذلك لم يمنع استمرار الخلافات بين مكونات الائتلاف الحاكم. فما إن أدرجت هاتان الاتفاقيتان على جدول أعمال البرلمان، حتى انطلقت معركةٌ حامية، من المتوقع أن تنتقل شرارتها قريباً إلى داخل الفريق الحكومي. وما أقدم عليه رئيس الحكومة من تأجيل النظر في المسألة، هو من باب الإجراء الاحتياطي، ومحاولة كسب الوقت، للحيلولة دون تعريض التضامن الحكومي للتهديد، خصوصاً في ظلّ الأوضاع الراهنة. ويبدو أن هناك جهات تعمدت إثارة الخلط بين الاتفاقية المعروضة حالياً على البرلمان في ما خصّ تركيا (اتفاقية التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمارات بين تونس وتركيا)، وبين اتفاقية أخرى تخصّ التبادل التجاري الحرّ التي سبق أن تقدمت بها أنقرة وتضمنت المطالبة بعددٍ من الامتيازات، التي لم يُبت فيها حتى الآن، نظراً لتفاقم العجز التجاري لمصلحة تركيا.
كذلك إن مشروع الاتفاقية الحالية لا يختلف عن أكثر من 50 اتفاقية ثنائية شبيهة أبرمتها تونس. ورأى فيها أستاذ الاقتصاد محسن بن حسن "أحد الحلول لدفع الاستثمار التركي في تونس، والحدّ من تأثيرات ارتفاع العجز التجاري بين البلدين، وتحويل تونس إلى منصة للصناعة التركية الموجهة خصوصاً إلى الدول الأفريقية". ولاحظ بن حسن أن هذه الاتفاقية "لا تمنح المستثمرين الأتراك امتيازات استثنائية"، وبالتالي "لا تمسّ بالسيادة الوطنية بأي حالٍ من الأحوال، ولا تعطي المستثمرين الأتراك الحق في تملك العقارات إلا بما يسمح به القانون التونسي الحالي، الذي يمنع تملك الأجانب للأراضي الفلاحية بصفةٍ قطعية، ويسمح بتملك عقارات في المناطق الصناعية، فيما يخضع تملك بقية العقارات لترخيص الوالي". وخلافاً لما روّج له معارضو الاتفاقية، حول رفض الجانب التركي القبول بالتحكيم التونسي، أشار الخبير الاقتصادي إلى أنه "في حال نشوب نزاعات، تنصّ الاتفاقية على اللجوء إلى التحكيم التجاري ثم بعد ذلك القضاء، وهذا التوجه معمولٌ به في جلّ الاتفاقيات ذات البعد الاقتصادي والمالي الدولي، ولا يتضمن أيّ مساس بالسيادة الوطنية أو استنقاص من دور القضاء التونسي".
أما بالنسبة إلى اتفاقية فتح مقرٍ لصندوق التنمية القطري في تونس، فشدّد بن حسن كذلك على أن جلّ مؤسسات التمويل والتعاون الدولي في تونس "وقّعت اتفاقيات مماثلة شكلاً ومضموناً، وتحصّلت على ذات الامتيازات المتعلقة بطرق التسيير والانتداب وتحويل الأرباح"، وبالتالي فهو نفى وجود إجراءاتٍ خاصة طالبت بها الدوحة لتتمتع بامتيازات غير متوافرة في بقية الاتفاقيات.
في الواقع، تندلع معركةٌ سياسية مفتوحة بين معظم الأحزاب التونسية، وبين حركة "النهضة" التي تدافع بقوة عن هاتين الاتفاقيتين. وإذ تسعى بعض أطراف المعارضة إلى تفجير الصراع بين مكونات الائتلاف الحاكم من خلال هذه المسألة وغيرها، لكن المعطيات المتوافرة قد تسمح بتطويق الخلاف، لأن معظم الأحزاب المشاركة في الحكم لم تدرس بنحو مُعمق تفاصيل المشروعين، إضافةً إلى وجود تباين في الرؤى داخل كلّ حزب. فحزب التيار الديمقراطي، مثلاً، يختلف في أسلوبه واستراتيجيته عن حركة الشعب، على الرغم من انتمائهما إلى كتلةٍ برلمانية واحدة. كذلك فإن حركة الشعب تضم أصواتاً متعددة، لا صوتاً واحداً. وهذه الخلافات "يمكن تجاوزها إذا وضعت مصلحة تونس فوق كل اعتبار"، بحسب ما أكد نائب حركة الشعب عبد الرزاق عويدات، في حديث لـ"العربي الجديد"، موضحاً أن الحركة لديها تحفظ على بندين من الاتفاقية القطرية: الأول يتعلق بالفصل الثامن المرتبط بحق الصندوق أن يكون له شركاء من خارج تونس، ولا يحق للطرف التونسي الاعتراض على ذلك، أو التدخل في المشاريع التي ستُنفَّذ. أما البند العاشر، فيخص تحميل الدولة التونسية مسؤولية تعطيل أي مشروع دخل حيّز التنفيذ.
عددٌ واسع من الخبراء استغربوا هذا الجدل الدائر. فكاتب الدولة السابق في حكومة مهدي جمعة (2014-2015)، عبد الرزاق بن خليفة، وهو قاضٍ إداري سابق ومحامٍ حالي، دعا التونسيين إلى "التخلّي عن العواطف، والإقرار بأنّ كل صندوق استثماري مرحب به، خصوصاً مع دخول الشركاء التقليديين لتونس في أزمة عميقة". ولاحظ بن خليفة خصوصاً أنّ قطر هي "الدولة الوحيدة في الخليج التي لن تطاولها تداعيات أزمة النفط، لكونها تنتج الغاز بالأساس، وهي التي قد تنفرد بصدارة الاستثمار، لا في الشرق الأوسط فحسب، بل في العالم".
أما المحامي أكرم الزريبي، فأكد من جهته، أن اتفاقية المقر مع الصندوق القطري "تتضمن امتيازات عادية جداً، يتمتع بها أغلب المستثمرين الأجانب في تونس منذ عقود، وهي امتيازات أقل قيمة مقارنةً بما مُنح لمستثمرين آخرين، مثل سما دبي (عقاري)".
هي إذاً جولة أخرى من الصراع والتقلبات، بعضهم يرى فيها جزءاً من حيوية الصراع الديمقراطي، فيما يعتبر آخرون أنها ليست سوى انعكاسٍ لصراع المحاور الإقليمية والدولية.