ما الذي فعله "لي كوان"؟!

30 مارس 2015
+ الخط -
تبلغ المساحة الإجمالية لجمهورية سنغافورة حوالي 275 ميلاً مربعاً فقط، حيث تمتلك عدداً قليلاً من الموارد الطبيعية، ومساحة محدودة من الأراضي الصالحة للزراعة، وحقل بترول صغير يقع في المياه العميقة.


قبل حصولها على استقلالها في عام 1965 عن ماليزيا، كانت لدى الجزيرة، الواقعة في جنوب شرق آسيا، سوق محلية صغيرة، وبنية تحتية سيئة، ومياه نظيفة شبه معدومة. في ذلك الوقت، كان عدد سكان سنغافورة لا يتجاوز مليوني نسمة، نصفهم من الأميين، ونحو ثلاثة أرباعهم يعيشون في ظروف اجتماعية صعبة. 

كان لدى رئيس الوزراء الأسبق، لي كوان يو، الذي حكم سنغافورة على مدى ثلاثة عقود متتالية ما بين 1959 ـ 1990، الرغبة في بناء دولة، ونقلها إلى مصاف الدول المتطورة. لتحقيق غايته، بدأ بزيارة جزيرة سريلانكا مرات عدة، بدءاً من عام 1956، حيث كان يعتقد بأن سريلانكا، التي حصلت على استقلالها في عام 1948، يمكن أن تمثل نموذجاً إيجابياً محتملاً لتنمية وتطوير بلده. لكن، بدلاً من تركيز جهودها على التنمية، وجدت سريلانكا نفسها في مواجهة قضايا اجتماعية متأزمة، فاندلعت صراعات طائفية بين غالبية بوذية، تسعى لجعل البوذية دين الدولة الرسمي، والسنهالية لغتها الوطنية، وأقليات من الهندوس والمسلمين، ما أدى إلى توقف عجلة التنمية في سريلانكا لمدة تزيد عن ثلاثين عاماً.

بالتأكيد، لم يتعلّم "لي كوان"، الذي توفي قبل أيام عن91 عاماً، ما أراد تعلمه من سريلانكا، لكنه تعلم شيئاً آخر، هو كيفية تجنّب الوقوع في الأخطاء نفسها التي وقعت فيها سريلانكا. لذلك، حرص على ضمان تمتع جميع الأديان في سنغافورة بحريات متساوية بموجب الدستور، وجعل اللغة الإنجليزية لغة العمل في بلاد تتألف تركبيتها السكانية من خليط عرقي متعدد الأجناس ذي غالبية صينية، وأقليات من الملاويين والهنود، يدينون بديانات مختلفة بين المسيحية والبوذية والهندوسية والإسلام.

أثبتت سياسة "لي كوان" نجاحها، وتمكن من صهر مختلف إثنيات ومكونات المجتمع السنغافوري الديموغرافية في بوتقة من التسامح الديني والعرقي، ومضى قُدماً في تطوير الاقتصاد السنغافوري، مركّزاً جهوده في المقام الأول على تعزيز مبدأ سيادة القانون، فهو المؤمن بأن الانضباط هو الشرط الأساسي للحكم الرشيد. لذلك، قام بتطبيق القانون بشكل حازم، وفرض الغرامات والعقوبات الصارمة حتى على صعيد إلقاء النفايات من قبل الأفراد، ما يبرر السمعة التي اشتهرت بها سنغافورة كأنظف دولة في العالم.

ندرة مواردها الطبيعية، أجبرت سنغافورة على تطوير قوة عاملة متعلمة وماهرة. فتم اعتبار الأفراد الذين تبلغ أعمارهم 15عاماً فأكثر من الفئة النشطة على الصعيد الاقتصادي، ذلك أنهم يقومون بتوفير الأيدي العاملة اللازمة لإنتاج السلع والخدمات، ويتنافسون في ما بينهم على زيادة أجورهم من خلال التدريب المستمر وزيادة ساعات العمل، ما أسهم في زيادة الإنتاجية، وتعزيز الدخل القومي، ورفع مستوى المعيشة.

إضافة إلى ذلك، سعى "لي كوان"، من خلال سياسة الإدّخار القسري التي انتهجتها حكومته، إلى تجميع رأس المال، فألزم أصحاب العمل والعمال على توفير 40% من أجورهم، مقابل حصولهم على خدمات صحية، وتمويل تعليمهم الجامعي، وتأمينهم ضد العجز والشيخوخة، علاوة على كونها تجميع لمدخرات تفيدهم عند التقاعد. ونظراً لصغر حجم سكانها وسوقها المحلي، سعى "لي كوان"، من خلال سياسة الانفتاح الاقتصادي التي عُرف بها، إلى تحقيق إيرادات إضافية يرفد بها خزينة الدولة، حيث باتت سنغافورة أكبر موطن للاستثمارات الأجنبية في العالم، وهي سمة هامة من سمات اقتصادها القوي.

خلق "لي كوان"، خلافاً لقادة سريلانكا، الظروف المناسبة لتحقيق النجاح الاقتصادي لبلده، رغم حجمها الصغير ومواردها الطبيعية النادرة. واليوم، تعد سنغافورة واحدة من أكثر الدول المتقدمة في السنوات الخمسين الماضية، مع بنية تحتية متطورة، ومعدلات ضريبية منخفضة، وبيئة سياسية مستقرة، وحكومة خالية من الفساد. لهذه الأسباب، تجتذب سنغافورة ما يزيد عن ستة آلاف من الشركات المتعددة الجنسيات، من الولايات المتحدة واليابان وأوروبا، ونحو ألفي شركة من الصين وعدد مماثل من الهند، وهو ما يمثل أكثر من ثلثي الناتج الصناعي في سنغافورة.

لقد نما معدل الدخل السنوي للفرد في سنغافورة من مئتي دولار في عام 1965، إلى ما يزيد عن عشرين ألف دولار مطلع تسعينات القرن الماضي، ليقفز إلى خمسة وخمسين ألف دولار حالياً. عندما سُئل "لي كوان"، الرجل المخلص لبلده والبعيد عن الفساد، من قبل صحافي غربي ما إذا كان يهتم للنقد الذي يوجّه إليه في بعض الصحافة الغربية، رد عليه قائلاً: "ما يهمني فعلاً هو ما يقوله السنغافوريون".

إقرأ أيضا: الذهب مقابل صحتهم...السودانيون يضحون بأنفسهم
المساهمون