في عام 2011، صارت حادثة وفاة الشاب التونسي علي محمود، حديث الجالية العربية في ولاية نيويورك، إذ قضى الشاب وهو نائم، وبعد بحث مطول، لم تجد الشرطة الأميركية، أقارب له، وبصعوبة بالغة عرفت الشرطة، أنه تونسي ينحدر من مدينة المحمدية (تبعد 20 كيلومتراً عن العاصمة). بينما "ظل علي في ثلاجة الموتى لأكثر من ثلاثة أسابيع، إذ لم يتمكن أصدقاؤه من دفنه من دون موافقة أقاربه"، وفق صديقه جمال خلاد.
جمال أيضا تونسي، ويعتقد أن ابن بلده "مات لأنه كان يعيش ضغوطا كبيرة بعد أن طرد من العمل، وعجز عن إرسال تحويلة مالية شهرية لأسرته في تونس"، غير أن أكثر ما جعل جمال يشعر بقسوة الحياة، على صديقه حيا وميتا، هو تكاليف دار الدفن الإسلامية والتي وصفها بـ"الباهظة جدا"، إذ بلغت 5000 دولار للدفن في أميركا، أما تكاليف إرسال الجثمان إلى تونس، "فتصل إلى 25 ألف دولار، حسب شركات الطيران" كما يقول جمال الذي بحث كل الخيارات وقتها في محاولة لتكريم صديقه المتوفى.
جمع أبناء الجالية العربية تبرعات للتكفل بنقل جثمان علي إلى تونس، تحقيقا لرغبة أسرته، "لكنها لم تكن كافية"، حسبما يقول جمال مردفا، "بعد أن اتصلنا بزوجته، رضخت الأسرة للأمر الواقع، دفناه في مقبرة مشتركة للمسلمين والمسيحيين في ولاية نيوجيرسي".
دور المساجد
ليست مساجد أميركا كغيرها في البلدان الإسلامية، إذ تبقى طيلة الأسبوع فارغة إلا من بعض كبار السن، من بينها مسجد "الرحمن" في نيويورك والذي غالبا ما يصلي فيه الإمام عبد الله بثلاثة أشخاص طيلة الأسبوع، يصل عددهم إلى ستة، وأحيانا عشرة في صلاتي المغرب والعشاء، غير أن يوم الجمعة، يعد اللقاء الأسبوعي للجالية العربية الإسلامية في منطقة نيويورك، حيث يصل عدد المصلين إلى 150 شخصا أحيانا، حسب عبد الله، الذي يرى عدم التعجيل بالدفن، "فإذا استطاع ذوي الفقيد تأجيل صلاة الجنازة حتى يوم الجمعة كان ذلك أفضل، لأن عدد المصلين يتجاوز المئة".
وتقوم المساجد بأدوار أخرى، إذ تنسق مع دور دفن المسلمين، كما تعلن أيضا حملات التبرع خلال أيام الجمعة لمساعدة الأشخاص الذين يعجزون عن تغطية نفقات الجنائز، وفقا لما يؤكده الإمام عبد الله متابعا "نجمع مبالغ مالية ونمنحها لأسر تعجز عن دفن أبنائها".
وتوفر مقبرة "مونت ساناي" خدماتها للمسلمين في نيويورك، لكنها لم تعد تتسع للأعداد الكبيرة من المسلمين في بروكلين وكوينز. وطالب مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية (كير) منذ 2011 بتوفير مقبرة مشابهة وقريبة، "حتى لا يضطر الناس لدفن موتاهم في ولاية نيوجيرسي المجاورة"، كما يقول مدير التواصل في مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية "كير" إبراهيم هوبر لـ"العربي الجديد".
يؤكد هوبر، أن عدد المسلمين في نيويورك "في تزايد مضطرد"، مستطردا "امتلأت مقبرة نيويورك. الآن نريد مقبرة أخرى في لونغ أيلاند. ليس من المعقول السفر إلى ولاية نيوجيرسي من أجل دفن الموتى".
وترفض بعض الأسر دفن أبنائها في مقابر مشتركة مع أديان أخرى، أو انتظار ثلاثة أيام من أجل إيجاد بقعة صغيرة للدفن. يقول هوبر: "الدين الإسلامي يأمر بتعجيل دفن الميت. انتظار ثلاثة أيام بسبب عطل نهاية الأسبوع مسألة تتناقض مع الشريعة الإسلامية".
الغسل والدفن
توجد في أميركا عشرات دور الدفن الإسلامية، "لكن مسلمو أميركا يشتكون من أسعارها غير الإسلامية"، ومن هؤلاء الثلاثيني الجزائري أحمد، والذي توفيت والدته العام الماضي، ليخوض تجربة مريرة بسبب إجراءات الدفن. يقول أحمد: "عندما تصاب الأسرة بفاجعة الموت، آخر همّها هو المال. كان هذا الأمر بديهيا بالنسبة لي، لكن عندما توفيت الوالدة هنا عرفت بأن الموت في أميركا باهظ أكثر من الحياة". ويؤكد أحمد أن جنازة والدته كلفته 10 آلاف دولار، وهو ما تجاوز نفقات المشفى.
في اتصال مع أحمد كارغي أحد المسؤولين بدار "الرحمة" للدفن في نيويورك، نفى استغلال مصائب الآخرين للاغتناء، مضيفا أن "الناس تعودت في بلداننا على الدفن والغسل بالمجان، لكن في أميركا هذه وظيفة، فالذي يغسل الموتى هو شخص له أسرة وحياة أيضا".
يضيف كارغي، وهو تركي الجنسية، أن دار "الرحمة" تحترم مذهب الميت ومطالب أهله، خلال تجهيز الجثمان للدفن، "لكن لسنا مسؤولين عن حفر القبر أو إيجاد مكان لدفن الميت. مهمتنا تنتهي عند تجهيز الجثمان وتكفينه وفق الشريعة الإسلامية".
ويشير إلى أن المسلمين، "وبسبب الشريعة، أعفتهم السلطات من وضع الجثامين في توابيت، فبعض الناس يعتبرونها غير إسلامية، لكن السلطات تفرض وضع غطاء بلاستيكي على الجثمان حتى لا يلامس جسده التراب مباشرة".
وبخصوص أسعار تجهيز الميت ونقله إلى المسجد وأخيرا المقبرة، قال إنها تختلف حسب رغبات الأهل "البعض يحرص على توابيت باهظة الثمن، آخرون يرفضونها أصلا، لكن عموما لا يقل السعر عن 2000 دولار".
بعد وصول الجثمان إلى المقبرة، تنتهي مهمة دار "الرحمة" ليدخل أقارب الفقيد في مفاوضات جديدة مع المقابر، التي لها أيضا أسعارها الخاصة. يقول كارغي "المقبرة هي التي تتولى حفر ووضع الميت في القبر وكل الإجراءات الأخرى. هناك نوعان من القبور: اللحد والشق. وفي الغالب تتراوح أسعار المقابر في نيويورك بين 3000 و4000 دولار".
الدفن في الوطن الأم
يظل خيار الدفن في الوطن الأم المفضل لدى معظم الجاليات العربية في أميركا، غير أنه مكلف جدا، وقلة فقط من يستطيعون تغطية التكاليف الباهظة لعملية إرسال الجثمان إلى مسقط رأسه، كما يقول كارغي والذي ذكر أن مركز "دار الرحمة"، يتكلف في هذه الحالة بنقل الميت من مكان الوفاة إلى المركز حيث يتم تجهيزه لمغادرة أميركا إلى بلده الأصلي. لكن قبل نقله إلى الطائرة تفرض شركات الطيران سحب السوائل والأطعمة من الجثمان ووضع مواد كيميائية بديلا عنها، حتى تمنع الجثة من التحلل وإطلاق الروائح.
ويقوم المركز بتكفين الميت ووضعه في التابوت، وأيضا نقله إلى الطائرة بواسطة سيارة خاصة. كما أنه يقوم بالتنسيق مع وزارة الصحة الأميركية وقنصلية البلد الذي يتحدر منه الميت، من أجل استصدار وثائق إدارية مثل شهادة الوفاة وغيرها. وترتفع أسعار هذه الإجراءات إلى 5000 دولار.
لكن يظل كابوس الكثير من العرب الأميركيين هو الأسعار الخيالية لشركات الطيران. يقول كارغي: "هنا أيضا تنتهي مهمتنا، وتبدأ مفاوضات جديدة مع الخطوط الجوية، التي تنقل الميت إلى مسقط رأسه".
ابراهيم العسري، مغربي يقطن في نيويورك، توفي أخوه الأكبر بعد صراع مرير مع سرطان الدم، يقول لـ"العربي الجديد" إنه قرر أن يدفنه في مقبرة إسلامية بنيويورك، لكن والدته في المغرب كانت تريد إلقاء النظرة الأخيرة على ابنها ويكون قريبا منها في المغرب لتزور قبره باستمرار.
ويضيف أن أسعار شركات الطيران لا تقل عن 15 ألف دولار، وتصل أحيانا إلى 20 ألف دولار، حسب الشركة، مشيرا إلى أن "الناس في بلادنا لا تتفهم دوافع دفن موتى المسلمين في أميركا. إنهم لا يعرفون تكاليف الجنائز والنقل هنا".
ويؤكد ابراهيم أنه بعد مفاوضات شاقة نقلوا الجثمان إلى المغرب عبر شركة الخطوط الملكية المغربية بـ10 آلاف دولار فقط، لكن معظم خطوط الشركات الأوروبية مثل "آير فرانس" و"لوفتنزا" الألمانية والإيطالية تفرض رسوما مضاعفة تجعل الناس يختارون الدفن في أميركا، ما دامت المقابر إسلامية.