أزمة اليسار العربي1.. الثورة التونسيّة تمنح الحمر قبلة الحياة

16 مارس 2015
دماء الشهداء حافظت على وحدة الجبهة الشعبية (فرانس برس)
+ الخط -
في قلب تونس العاصمة اهتزّ سكان أحد الأحياء الشعبية لخبر اعتقال العم محمود. كان محمود محبوباً من الجميع نظراً لهدوئه ودماثة أخلاقه، تعددت الروايات والتأويلات إلى أن أسقط في يد الجميع، بعد أن علموا أن سبب اعتقال صاحبهم، لأنه "شيوعي". حكم على محمود بسنة في السجن بتهمة تأسيس خلية تابعة للحزب الشيوعي التونسي، خلال الفترة التي كان فيها نشاط الحزب معلقاً بقرار قضائي وسياسي، في عام 1968 في عهد الرئيس بورقيبة، الذي شن حملة واسعة على الحركة الطلابية التي قضّت مضاجعه بكل فصائلها وفي مقدمتها قوى اليسار.

الحزب الشيوعي يفقد أنفاسه

يعدّ الحزب الشيوعي التونسي أقدم الأحزاب التونسية تأسيساً، إذ ظهر في عام 1920، لكنه بقي فرعاً ملحقاً بالفيدرالية الأممية الشيوعية، وتحت وصاية الحزب الشيوعي الفرنسي لسنوات قبل أن يتولى التونسيون قيادته، ويعملون على تصحيح مساره، ومن ذلك التحاقه بالحركة الوطنية للمطالبة بالاستقلال بعد المواقف المناهضة لذلك.

لم يتمكن الحزب الشيوعي من توسيع دائرة إشعاعه وذلك بحكم الأخطاء الفادحة التي ارتكبها أثناء مسيرته السياسية. ومن بين هذه الأخطاء تورطه في الدفاع عن شعار "الاتحاد الفرنسي" المناهض للمطالبة باستقلال تونس.

وحتى بعد الاستقلال اجتهد الحزب لتأصيل وجوده في البيئة التونسية، خاصة بعد بناء علاقات إيجابية مع الاتحاد العام التونسي للشغل، لكن سرعان ما تصدى له الرئيس الحبيب بورقيبة الذي أصدر قراراً بتجميد نشاطه عام 1963 في حقبة الحزب الواحد. كما أن الحزب الشيوعي تضرر كثيراً من ولائه للكرملين وارتباطه بالاتحاد السوفييتي ودفاعه عن سياسته الخاطئة، ما أفقده القدرة على التطور.

اليسار الجديد ومحاولات تغيير المعادلة

خلال الستينات من القرن الماضي، توالت الجهود من أجل سحب البساط من تحت أقدام الحزب الشيوعي. تمت المحاولة الأولى على أيدي التروتسكيين، قبل أن يتأسس في باريس "تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي"، وهو عبارة عن تجمع ضم في صفوفه قوميين وشيوعيين وماويين وبعض المستقلين، أصدروا مجلة تحت عنوان "آفاق"، وكان الهدف من المحاولة التي رأت النور خلال الستينات هو القيام بمسعى جاد وواعد من أجل بناء يسار جديد.
وفي ذلك المخاض، تأسست حركة العامل التونسي، التي أسهمت في تغذية الانتفاضة الطلابية الشهيرة التي عبّرت عنها "حركة أكتوبر 1972".

لكن كان من نتائجها اعتقال معظم الكوادر اليسارية الفاعلة، ودخول اليسار في مرحلة تشرذم واسعة النطاق، إذ انقسم اليسار الجديد إلى تيارين رئيسيين: حركة العامل التونسي، التي ستصبح في ما بعد تحمل عنوان "حزب العمال الشيوعي التونسي"، والتيار الثاني هو "الوطنيون الديمقراطيون".

هذان التياران سيكون لهما شأن بعد الثورة، لكنهما قبل ذلك عاشا صراعاً مريراً، واختلفا حول عديد من المسائل، بما في ذلك أسلوب إدارة الاتحاد العام لطلبة تونس الذي سعى كل تيار من أجل الانفراد بقيادته، وبلغ بهما الأمر درجة تبادل الاتهامات، وتغيير أقفال مقر الاتحاد، ما أصاب هذا الهيكل الطلابي بالجمود طيلة سنوات عديدة. كما اختلفا أيضاً في الموقف من حركة النهضة التي كانت مقموعة في مرحلة بن علي.

بعد الثورة، استمر انقسام اليسار على بعضه. وعلى هذا الأساس، دخلت الأحزاب اليسارية متفرقة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، فكانت نتيجة ذلك هزيمة قاسية، حيث لم يفز اليسار المتجذّر إلا بأربعة مقاعد فقط.

هكذا ولدت الجبهة الشعبية

في تلك الأجواء الساخنة من عام 2012، انطلق المناضل اليساري الراحل شكري بلعيد في إجراء مشاورات صعبة ومكثفة مع مختلف الرفاق، بهدف إقناعهم بأن مواجهة حركة النهضة لن يكون إلا عبر الوحدة والتكاتف.


هكذا بدأ بلعيد بتوحيد مجموعات عائلته السياسية والأيديولوجية المنقسمة على ذاتها، وتوصل إلى تأسيس ما أصبح يسمى "حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد". أما الخطوة الثانية، فكانت في اتجاه خصمه السابق، حمة الهمامي، رئيس "حزب العمال"، وحتى يطمئنه، عرض عليه مسؤولية الناطق الرسمي باسم هذا التحالف، وبذلك هدأت معركة طاحنة بين فصيلين ماركسيين استمرت نيرانها المتبادلة أكثر من ربع قرن.

بشكل موازٍ أدار بلعيد نقاشاً هاماً مع المجموعات القومية بشقيها الناصري والبعثي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن اليسار الجديد، وخاصة مع الوطنيين الديمقراطيين، ساعد كثيراً على تخفيف حدة التناقض الأيديولوجي بين الماركسية والقومية، مستفيدين في ذلك من تجربة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

هكذا ولدت "الجبهة الشعبية" في تونس، التي ضمت في بعض المحطات النضالية 13 تنظيماً حزبياً. وبذلك احتلت الجبهة مرتبة الحزب الرابع في البرلمان. وفي المقابل، انهار حزب "المسار الديمقراطي الاجتماعي"، الذي رفض الالتحاق بالجبهة ليجد نفسه خارج مجلس نواب الشعب بعد أن كان لديه عشرة نواب، وبعد أن كان امتداداً لحركة التجديد وريثة الحزب الشيوعي التونسي.

الانتصار السياسي الذي حققته الجبهة الشعبية لم يكن بدون ثمن، إذ فقدت وجهين قياديين هامين، وهو ما أثّر فيها كثيراً وشكل نقطة تحوّل بارزة في مسارها ورؤاها السياسية. ففي السادس من شهر فبراير/ شباط 2012، ما أن غادر شكري بلعيد منزله في ضاحية قريبة من وسط العاصمة، حتى فاجأه شخص كان يمتطي دراجة نارية مع مرافق له، وأفرغ فيه عدة رصاصات كانت كافيه لقتله.

وتكرر السيناريو نفسه يوم 25 يوليو/ تموز 2013، عندما فوجئ محمد البراهمي، المنسق العام لحزب التيار الشعبي والأمين العام السابق لحزب حركة الشعب ذات التوجه الناصري، وهو يغادر مسكنه ويركب سيارته، بغريب يقترب منه ويفرغ فيه 13 رصاصة ألحقته بصاحبه شكري بلعيد.

الدماء التي حافظت على الجبهة

استثمرت الجبهة الشعبية الاغتيالين لتصبح الجبهة في طليعة الأحزاب التي قادت المعارضة ضد حكومة الترويكا، إلى أن أزاحتها عن السلطة. رغم فشل معظم المحاولات الحزبية التي قامت على تشكيل تحالفات بين تنظيمات مختلفة أيديولوجياً، أو إنشاء أحزاب قائمة على تنوع المشارب والتيارات في داخلها، إلا أن الجبهة الشعبية تمكنت من حماية تماسكها والحفاظ على وحدتها التنظيمية في ظروف صعبة ومتحركة، بما في ذلك خلال المحطات الانتخابية المتعاقبة.

وهو ما أعطاها قدراً من الزخم والقوة، وجعل بعض المكونات اليسارية في الجبهة تفكر في احتمال تحقيق وحدة اندماجية بين حزبي "الوطنيين الديمقراطيين الموحد" من جهة، و"حزب العمال" من جهة أخرى.

الموقف من القضية الفلسطينية

العلاقات الوثيقة بين التيارين الماركسي والقومي أدت إلى إدخال تعديلات جوهرية على موقف اليسار التونسي عموماً من القضايا القومية، وفي مقدمتها الموقف من القضية الفلسطينية، إذ تجاوز اليسار موقفه البدائي الذي كان يعتبر فيه أن الصراع مع إسرائيل ليس قومياً وإنما هو طبقي يفرض توحيد العلاقة بين البروليتاريا العربية والبروليتاريا الإسرائيلية واليهودية ضد الإمبريالية.

ويقف اليسار التونسي حالياً من القضية الفلسطينية في الجهة المعادية لإسرائيل بقوة، مؤيداً الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في إقامة دولته المستقلة. وفي هذا السياق، طالبت "الجبهة الشعبية" التونسية كل القوى الوطنية في تونس الإسراع بفرض قانون يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني، معتبرة ذلك أقل واجب لدعم الشعب الفلسطيني.

مستقبل اليسار في ظل التحولات

قبل الثورة التونسية، عدّ البعض "الحمر" ظاهرة من الماضي في طريقها نحو الانقراض، لكن جاءت التطورات المتلاحقة منذ الإطاحة بالرئيس بن علي لتعيد الحياة إليه على أكثر من صعيد. إذ أنقذت الثورة اليسار التونسي من موت كان محتماً.
ووفق محللين، فإن اليسار في تونس لا يمكن اختزاله في تنظيمات سياسية تجتمع أو تنقسم، وإنما يعد حالة ثقافية متشعبة تشق مختلف مجالات النشاط الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي. فاليساريون أسهموا بقوة في الحركة الفكرية والأدبية والمسرحية والسينمائية في تونس. كما لليساريين حظور قوي داخل النقابات وفي صفوف الحركة الطلابية، ولهم مواقع مؤثرة في العديد من الأحزاب، بما في ذلك حزب نداء تونس، الحاكم حالياً.

كذلك، ومن خلال الجبهة الشعبية، أصبح اليسار أحد اللاعبين الرئيسيين الذين قد يسهمون في صناعة المستقبل في تونس، ولا يستبعد أن تستفيد الجبهة من عثرات الحزبين الكبيرين، وهما حزب نداء تونس وحركة النهضة، لتنجح في شق طريقها كقوة سياسية ثالثة بديلة.

وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن حمة الهمامي، الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية، قد حصل على المرتبة الثالثة في الانتخابات الرئاسية، وصوّت له أكثر من 255 ألف ناخب، فحقق بذلك مفاجأة لم يتوقعها الكثيرون.

كما أن بقاءه خارج الحكومة الائتلافية التي سيتحمل حزب نداء تونس مسؤولية تشكيلها، قد يندرج ضمن استراتيجية الجبهة الشعبية في انتظار أن تتوفر الشروط التي تصب في صالحها وتجعل منها شرطاً من شروط استكمال النصاب وتحقيق المعادلة التي قد تفرضها المتغيّرات المقبلة. ويبقى القول إن ما حصل في اليونان أصبح يغذي خيال الكثير من اليساريين التونسيين.