معاناة الأسرى في "البوسطة والمعبار"... تفاصيل صادمة لانتهاكات قوات الاحتلال الإسرائيلي

16 ابريل 2019
عمر البرغوثي يوم الإفراج عنه في مجمع طبي(العربي الجديد)
+ الخط -

خرج الأسير الفلسطيني المحرر عمر البرغوثي، من بوابة سجن عوفر الإسرائيلي غربي مدينة رام الله في 11 إبريل/ نيسان بعد أربعة أشهر من الاعتقال الإداري بلا تهمة، على كرسي متحرك، ونقل إلى المستشفى بمركبة إسعاف لمتابعة وضعه الصحي بسبب الالتهابات في رجله، التي عانى منها في السجن غير أن أبو عاصف رفض الذهاب إلى عيادة سجن الرملة للعلاج خوفا مما سماها رحلة العذاب، كما يصفها لـ"العربي الجديد" موضحا أن رحلة "البوسطة" (مركبة نقل الأسرى الفلسطينيين) يكابد فيها الأسير البقاء لساعات طويلة، مكبل اليدين والرجلين في قفص حديدي، بلا تهوية، وعلى مقاعد حديدية من دون توفر أدنى الظروف الإنسانية عقب تفتيش مذل.

وعاش عمر البرغوثي 26 عاما من عمره في السجون الإسرائيلية منذ عام 1978، كما يروي قائلا أن معاناة البوسطة من أصعب مراحل السجن وخصوصا للمريض، إذ لا بد أن يخضع لتفتيش أولي على باب القسم بآلة كشف المعادن، حين يراد نقل الأسير من السجن إلى المحكمة ثم ينقل لمكان آخر ليفتش بآلات حديثة وفي كثير من الأحيان بتفتيش عار ومذل، ويخضع لتفتيش آخر تقوم به قوات النقل قبل الصعود للمركبة.

ولا تتوقف المعاناة عند ذلك إذ احتاج البرغوثي البالغ من العمر 66 عاما، أثناء إحدى الرحلات في الاعتقالات السابقة، أن يذهب للمرحاض، بسبب مرض الضغط، وأخذه بانتظام دواءً مدرّاً للبول، وبعد مفاوضات مع المجندين ورفض متكرر، جلب أحدهم قنينة فارغة ليتبول أبو عاصف فيها، لكنّ يداه مكبلتان ورجلاه كذلك، وحين استنكر على المجند بقاء يديه مقيدتين أجابه: "فليساعدك زميلك"، ويقول البرغوثي إن مجرد حديثه حول البوسطة يستفز كل جسده، مستذكرا أسيرا مسنّا كان معه في إحدى الرحلات لم يحتمل، وتبوّل على نفسه بعد رفض قوات النقل السماح له بالذهاب للمرحاض، كما يستذكر آلام ارتطام جسده ورأسه أكثر من مرة بالحديد إثر قيام السائق بالضغط على الفرامل بشكل مفاجئ.

معاناة أبو عاصف يكابدها 5700 أسير، بينهم 700 مريض، و250 طفلا، و47 أسيرة، حسب إحصاءات نادي الأسير الفلسيطيني، الذي لفت إلى اعتقال قرابة مليون فلسطيني طيلة سنوات الاحتلال، تعرضوا لأشكال مختلفة من عذابات التنقلات بين السجون والمحاكم، وهو ما يرصده التحقيق التالي التي توثق معاناة نقل الأسرى من المركبة المعروفة بـ"البوسطة"، إلى السجون الانتقالية التي يجمّع فيها الأسرى أثناء النقل كمحطة عبور والمسماة بـ"المعبار".
 

 
 


البوسطة والمعبار

ما هي البوسطة؟ يجيب الأسير المحرر عبد الفتاح دولة (41 عاما) قائلا: "حافلة نظيفة من الخارج، لكنها من الداخل سجن كل ما فيه حديد، مقسمة لأربع حجرات؛ غرفة كبيرة للأسرى بشكل عام وثلاث حجرات تتسع لشخص واحد أو اثنين، وتستخدم لنقل الأسيرات، وكذلك لنقل الأسرى المعزولين الذين لا يريد الاحتلال أن يحتكوا بالأسرى الباقين".



دولة الذي قضى اثني عشر عاما في السجن تواصلت محاكمته خمس سنوات بما تعنيه من تنقلات بشكل دوري بالبوسطة، وأعيدت محاكمته بعد سنتين مدة خمسة أعوام أخرى، عشر سنوات من التنقلات بين السجن والمحكمة دفعته ليكتب وهو في الأسر روايته "البوسطة" التي شرحت كل تفاصيل الرحلة، وربطها بتفاصيل رحلة زيارة الأهالي لأبنائهم في السجون.

مقعد البوسطة كما رآه دولة قطعة حديد فيها ثقوب صغيرة على امتدادها، لو قدر للأسير أن ينظر إلى جسده لرآى آثار تلك الثقوب مطبوعة فيه، أما طول قامته فكانت نقمة عليه، إذ يضطر لثني رجليه إلى الأسفل ورغم ذلك تلامس ركبتاه المقعد الحديدي الذي أمامه بسبب ضيق المسافة، وهو ما يعتقد أنه وكرسي التحقيق، قد سببا له مشاكل مستمرة في المفاصل.

الرحلة كما رصدها عبد الفتاح دولة تستغرق على أقل تقدير ثماني عشرة ساعة، وتمتد لأيام، ويضاف للتنقل بالمركبات ذات الظروف السيئة سجن انتقالي "المعبار"، يقضي الأسير ليلتين أو أكثر داخله، فينقل من سجنه إلى المعبار وبعد قضاء أول ليلة ينقل صباحا للمحكمة ثم يعاد إلى المعبار ليبيت ليلة أخرى قبل العودة إلى السجن، وإن صادفت عطلة نهاية الأسبوع أو عطلة بسبب الأعياد تتمدد فترة مكوثه هناك، والمكان بحسب دولة يحوي غرفا سيئة، متسخة، مليئة بالصراصير، وتفتقر لكل مقومات الحياة.



تفاصيل صادمة عن معاناة الأسيرات


ليس من السهل أن تتحدث أي فتاة عن تفاصيل دقيقة وخاصة، لكن الأسيرة المحررة نجوان عودة (36 عاما) تغلبت على ذلك لضرورة شرح معاناة الأسيرات أثناء نقلهن وما يتعرضن إليه، ففي اليوم الأول لاعتقال عودة من منزلها في مدينة البيرة كانت في يومها الثالث من الدورة الشهرية، بعد أن اعتقلت الساعة الثانية والنصف فجراً في سبتمبر/أيلول عام 2015، وفي الساعة العاشرة والنصف صباحا نقلت من مكان احتجاز مؤقت بالبوسطة في رحلة استغرقت ست ساعات، ولم تكن تعلم أي شيء عن تلك المركبة، في الطريق بدأت تطرق على باب الحجرة الحديدية التي وضعت داخلها ولا من مجيب، بل زادوا من مستوى صوت مذياع المركبة حتى لم تعد تستطع سماع نفسها حين تصرخ، حجرة ضيقة لا تهوية فيها سوى ثقوب صغيرة في جدار المركبة يكاد لا يدخل منها الهواء، ما أدى إلى استفراغها وتحول كل شيء إلى رائحة كريهة بما في ذلك ملابسها.

تقول عودة إن الخروج في البوسطة أثناء الدورة الشهرية من أسوأ ما قد تمر به الأسيرة، لأن مجموع الساعات التي كانت تقضيها داخل البوسطة ذهابا وإيابا من وإلى المحكمة كانت لا تقل عن واحد وعشرين ساعة، منها ساعات انتظار داخل المركبة عند المعبار، ومن النادر جدا أن يسمح لهن بالذهاب للمرحاض بعد مناشدات كثيرة، وحتى في تلك الحالة لا وقت لديها سوى دقائق معدودة قد تفتح خلالها المجندة باب المرحاض لتطلب خروج الأسيرة، فضلا عن بقاء الرجلين مقيدتين في مرحاض سيئ الظروف الصحية ويفتقر إلى أدنى مقومات النظافة.

لا تنسى نجوان لحظات تفتيش المجندات لها أكثر من مرة، وغالبا بشكل عارٍ قبل الذهاب للبوسطة، لا تنسى محاولاتها التي تفشل أحيانا للصعود إلى العتبة الأولى المرتفعة عن الأرض في ظل تقييد أيديها وأرجلها، ولا تعامل قوات "النحشون" السيئ، وكل ذلك كان يسبب لها ولكل أسيرة قلقا لا يوصف، كما تقول حين تعلم أن في اليوم التالي رحلة صعبة.

ووحدات "النحشون" هي وحدات خاصة من مهامها نقل الأسرى من سجن لآخر، ومن السجن إلى المحاكم، بالإضافة إلى نقل الأسرى المرضى، والسيطرة على السجون، وتهدف إدارة السجون من خلال هذه الوحدة إلى قمع الأسرى وإجبارهم على تنفيذ أوامرها، وبحسب محامية هيئة شؤون الأسرى والمحررين حنان الخطيب فإن الأسيرات تعرضن لاستفزازات وإهانات من قوات "النحشون" كما حصل مع والدة الشهيد أشرف نعالوة، وتؤكد الخطيب أن أسيرتين طلبتا منها قبل شهر تقديم شكوى بالمجندين بعد أن طلب أحدهم من المجندة تقييد يد كل واحدة منهما برجلها بقيد حديدي إضافة للقيد المعتاد ورفضهن ذلك، وما تعرضن إليه بعدها من مضايقات واستهزاء.

 
 


تحطيم الأسرى

قبيل الرحلة يتحضر كل بطريقته، يقول مدير مركز أحرار لدراسات الأسرى، الأسير المحرر فؤاد الخفش (44 عاما)، إنه يقلل من الطعام والشراب قبل يومين أو ثلاثة تجنبا لاضطراره لقضاء حاجته، وتجنبا لآثار ثقوب المقعد الحديدي كان يضع منشفة صغيرة بين بنطاله وملابسه الداخلية، ومثله كانت نجوان عودة تتوقف عن شرب السوائل منذ الساعة التاسعة مساء قبل الخروج إلى المحكمة.

ويقول الباحث الخفش إن كل ما يتعرض له الأسير أثناء النقل مبرمج لقتل روح الأسير، ولتعذيبه وإيذائه، ومن ذلك وضع الأسرى في نفس المركبة مع الجنائيين الذين لا يتوانون عن الشتم والصراخ والتدخين رغم التهوية السيئة، ويقول إن نقل الأسير إلى السجن الانتقالي "المعبار" أصبح ممنهجا بعد عام 2007، أي بعد تسلم مصلحة السجون إدارة الأوضاع في المعتقلات.

وتخالف عمليات نقل الأسرى بهذه الطريقة مادة 127 من اتفاقية جنيف الرابعة والتي تنص على أن تكون وسائل نقل الأسرى مشابهة لوسائل النقل لقوات الاحتلال نفسها بمعنى أنه يجب أن تكون مريحة وسهلة، وفق ما تقله مديرة مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان سحر فرنسيس، والتي لفتت إلى أن طريقة النقل السيئة تلك تدفع كثيراً من الأسرى لتفضيل إبرام صفقات في المحاكم، وإنهاء الملفات القضائية لتجنب البوسطة.
 

 
 


جهود لم تفلح

في عام 2008 تقدمت المحامية عبير بكر بالتماس مبدئي ضد ظروف البوسطة باسم جمعية "أطباء لحقوق الإنسان" ومؤسسة عدالة، ورغم اهتمام المحكمة بالالتماس إلا أن وعودا قدمتها مصلحة السجون بمجموعة تحسينات أدت لسحب الالتماس، وعادت بكر مرة أخرى لتقديم التماس باسم أسيرين فلسطينيين في المحكمة العليا الإسرائيلية لا يزال عالقا منذ عام في أروقتها منذ عام.

جهود الحركة الأسيرة لم تتوقف لحل هذا العبء الثقيل على الأسرى، لكنها لم تنجح، إذ جرى اتفاق على إثر إنهاء إضراب الأسرى لعام 2012 بوجود سيارة خاصة لنقل الأسرى المرضى كما أكد فؤاد الخفش، لكن ذلك لم يطبق ما استدعى إعادة طرح قضية البوسطة في مطالب إضراب الأسرى عن الطعام عام 2017 كما أكد عبد الفتاح دولة الذي كان ناطقا باسم الإضراب، لكن الأسرى ما يزالون محاصرين بين البوسطة والمعبار.